لبَّيت الاسبوع الماضي دعوة من جمعية مغربية بورجوازية لالقاء محاضرة في كازابلانكا رداً على سؤال حول تخلف العرب وتقدم غيرهم وسأحاول من خلال هذه الزاوية عرض الافكار الاساسية في المحاضرة لكون الموضوع يعنينا جميعاً في كل بلاد العرب وليس في الدار البيضاء وحدها وفيما يلي الجزء الاول: قد يبدو النقاش حول سؤال لماذا تخلف العرب ، ولماذا تقدم غيرهم؟ للمرة الألف ربما بعد طرحه في ثلاثينيات القرن الماضي وبعد تداوله من طرف النهضويين العرب في القرن التاسع عشر قد يبدو وكأنه أي النقاش دليلا على أن مشكلة التقدم والتأخر لم تجد حلاً متفقاً عليه في الفكر العربي رغم الجهود الكبيرة التي بذلت في هذا المجال في أنحاء عربية مختلفة ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. ولعل الإصرار على طرح السؤال اليوم من طرف جهات فكرية وتيارات سياسية عديدة مازال يعكس رغبة وإرادة قوية في البحث عن نهضة عربية حقيقية لابد أن ترتسم صورتها في العقول قبل أن تتجسد في بلاد العرب وربما المسلمين عموماً. لا أظنكم تعتقدون أنني أحمل جواباً أو أجوبة تامة عن السؤال المطروح أو أنه ما أن ينتهي هذا اللقاء حتى يكون كل منا على يقين أنه بخروجه من هذه القاعة سيكون بوسعه الاطمئنان إلى أن النهضة الموعودة آتية في أقرب الآجال. لا لست "مدام سوليه" ولستم من عشاق التنجيم إذن فلنبحث معاً عن طريقة أو طرق لحل هذه المشكلة التاريخية وذلك عبر مقاربة مكثفة أعددتها خصيصاً لهذا اللقاء استناداً إلى كتاب جديد أصدرته مطالع هذا العام حول الثقافة السياسية في العالم العربي من خلال المثال المصري. معادلة التقدم والتأخر المشكلة الأهم التي يطرحها السؤال تتصل بمعنى التقدم ومعنى التأخر.المعنى ليس بديهياً كما يبدو للوهلة الأولى. لقد ولدت معادلة التقدم والتأخر من رحم حملة نابليون بونابرت على مصر( 1798 - 1801 م) فقد برهن الغازي الفرنسي للمصريين عبر جيش العلماء والمثقفين الكبار الذين شاركوا في الحملة برهن للمصريين أن احتلال بلدهم ليس ناجماً عن فارق عسكري يمكن استدراكه كما كان يحصل من قبل عبر تاريخهم وإنما عن فارق حضاري يكمن في هرمية جديدة للحضارات لم تستقر في وعي العرب من قبل. وتقف فرنسا والغرب عموماً في أعلى الهرم الحضاري في حين يقع العرب في أسفل هذا الهرم. ومع نشوء علم "الفرعونيات" من رحم الحملة نفسها اكتملت في الوعي المصري والعربي من بعد صورة هرم حضاري ما زال قائماً حتى اليوم حيث تقف الحضارة الغربية في القمة المعاصرة والحضارة الفرعونية في القمة التاريخية والحضارة العربية في القاعدة. لقد أفضت الترجمة العملية لهذه الهرمية إلى استنتاج مفاده أن الحضارة العربية عابرة ولا قيمة لها وسط قمتين واحدة عريقة وغابرة والأخرى ماثلة للعيان وبالتالي على المصريين والعرب أن يفتخروا بالفرعونية والفينيقية والبابلية وغيرها وان يعملوا على اللحاق بالحضارة الغربية. هكذا صار مفهوم التأخر مرتبطاً بالانتماء العربي الأصلي. أي بالهوية المحلية ومفهوم التقدم صار مرتبطاً بالحضارة الغربية. بعبارة أخرى صار معنى التقدم هو أن تصبح غربياً وأن تفكر وتحلم بالوسائل والطرق السائدة في "المتروبول" الغربي والتخلف هو أن تبقى عربياً وأن تحلم و تفكر بالوسائل والطرق التي كانت سائدة في الماضي في الحالة الأولى تقف مع تفكير المنتصر وفي الحالة الثانية تقف مع تفكير المهزوم. ما من شك أن إصلاحات محمد علي باشا كانت محكومة بهذه المعادلة وما نعيشه اليوم في بلداننا العربية محكوم أيضاً بهذه المعادلة التي تحولت في التطبيق العملي إلى قاعدة غالب ومغلوب أو تابع ومتبوع. ونجم عنها استحالة مطلقة مختصرها أن العرب لا يمكن أن يصبحوا غربيين وأن الغربيين لا يريدون أن يصبح العرب غربيين ولو عاش اليوم بيننا محيي الدين ابن عربي لاستفاض في شرح هذه الحالة إذ يقول" التابع لا يدرك المتبوع فيما هو تابع له فيه أبداً إذ لو أدركه لم يكن تابعاً. فافهم" معادلة الظلام والنور لم يقتصر معنى التخلف والتقدم على لحظة الصدام الحضاري في حملة بونابرت على مصر بل صار شرطاً للتفكير "الجيد" بالتاريخ بعد الحملة فقد انتشر في الوعي العربي والغربي على حد سواء اعتقاد أن العرب كانوا نائمين قبل الحملة وان بونابرت ومثقفيه أيقظوهم من سباتهم لذا وصفت الحملة الفرنسية بمولدة الصدمة الحضارية وباعثة النور على المصريين والعرب بل أن بعضنا يعتقد أننا لم نشكر القدر بما يكفي لأنه تسبب لنا بتلك الصدمة التي لولاها لمكثنا في غياهب الجهل والظلام إلى أبد الآبدين . من منا لا يعتقد اليوم أن مصر في عهد المماليك كانت غارقة في ظلام دامس ؟ من منا لا يعتقد أن "دايات الجزائر" كانوا حفنة من القراصنة الظلاميين التافهين الذين كان ينبغي التخلص منهم وبالتالي تمهيد الطريق أمام عصر الأنوار لكي يستقر في الجزائر التي كانت غارقة في ظلام القرون الوسطى؟ تكاد هذه الصورة السائدة اليوم أن تكون حاسمة في الوعي العربي لكن هل كنا فعلاً على تلك الحالة الموصوفة في القرن التاسع عشر وطيلة الفترة الكولونيالية، ولو كنا كذلك لماذا تمسك المغاربة بدولتهم ورفضوا مقايضتها ب "أنوار" الغزاة والمستعمرين و لماذا اجتمعوا من بعد صفاً واحداً حول ملكهم قبل وبعد نفيه؟ ولو كنا على هذا النحو لماذا قاوم الفلسطينيون الغزاة الصهاينة وما زالوا يقاومون؟ وليس المغاربة والفلسطينيين وحدهم في هذه الحال فعموم سكان شمال إفريقيا لم يكونوا متأخرين إلى الحد الموصوف في اللحظة الكولونيالية. يكفي التذكير فقط بالتراكم المعرفي و التقدم الاجتماعي الذي ازداد في هذه المنطقة بفعل سقوط غرناطة حيث استقرت هنا أهم النخب المعروفة عالمياً في ذلك العصر وحتى لا يكون هذا الاستنتاج محسوباً على عربي مفتخر بتاريخه فلنتأمل في شهادة "ألكسيس دو توكفيل" المنقولة بواسطة فرنسوا ماسبيرو عن حال منطقة جزائرية واحدة عشية استعمار الجزائر ولنتأمل من خلال هذه الشهادة في معادلة التقدم الغربي والتأخر العربي وفي معادلة الظلام والنور. في كتابه المعروف " شرف سانت أرنو" يقول ماسبيرو : " كانت في قسطنطينية (قبل احتلالها) تجارة مزدهرة . كانت المنتجات المحلية تنقل إلى تونس وتأتي منها الأقمشة والسجاد الشرقي.كان الريفيون القبائل في الجبال يتجاورون مع أبناء المدن بسلام عام 1830 كانت قسنطينة تضم 25 ألف نسمة من بينها عائلات نبيلة عديدة وعائلات تنتمي إلى بورجوازية الموريسك القديمة فضلاً عن تجار أغنياء من العرب واليهود كانت حاضرة ثقافية أيضاً حيث عدد المدارس اكبر من عددها في فرنسا قبل صدور قانون «غيزو» الذي جعل التعليم إجبارياً لقد وضع احتلال المدينة حداً لعصر البحبوحة التي كانت تعيش فيها، فقد هاجر قسم من بورجوازية المدينة وأصبحت التجارة نادرة . ويضيف ماسبيرو "هذا الكلام نقله «ألكسيس دو توكفيل» عن تقرير عسكري إحصائي أعده الجنرال بيدو وجاء فيه انه " في العام 1837 كان يوجد في قسطنطينية مدارس ثانوية وعليا حيث يدرس بين 600 و700 طالب تفاسير القرآن والسنة النبوية والحساب والفلك وعلم الكلام والفلسفة , وكانت تضم 90 مدرسة ابتدائية يدرس فيها 1300 إلى 1400 طفل. اليوم لم يبق فيها بعد احتلالها أكثر من 60 طالب دراسات عليا. أما عدد المدارس الابتدائية فقد انخفض إلى 30 مدرسة" هذا في بداية الاحتلال الفرنسي فما بالك في نهايته.