قال الزائر العربي في مطعم الفندق: هذا البلد غريب.!! لم أتمكن من أدراك معنى الغرابة في عباراته فقلت: أهو غريب بالمعنى المحبب أي انه لا يشبه بلداً آخر في العالم العربي ؟ قال : لست قادراً على تحديد المعنى. من جهة أراني مسحوراً بالمحلية اليمنية ومن جهة أخرى أراني ممتعضا من القات وهدر الوقت. كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يواظبوا يومياً على استهلاك هذه النبتة دون كلل وإلى حد الإدمان. قلت: هم يعيشون هكذا ولا يشتكون.وإن اشتكى بعضهم تسمع شكواه جزئيا ولا يتبعه الآخرون. هناك مناهضون للقات بل توجد جمعية لمكافحة القات في مؤسسة العفيف الثقافية وقد اتخذت الدولة قرارات عديدة بمنع القات أثناء العمل لكنها طبقت جزئيا لان الناس بنسبتهم الغالبة يخزنون. فما الذي يمكن فعله أكثر من التوعية والنصح وتوضيح المضار والآثار الجانبية للاستهلاك. ثم إن المخزنين يدركون مضار القات كلها ودون استثناء ويدركون ما يجدونه مناسباً لهم فيها ويقررون استهلاك هذه النبتة عن سابق تصور وتصميم فما الذي يمكن قوله أكثر من ذلك. قال: لا مستقبل لهذا البلد مع القات. قلت: امستقبل الدول العربية الأخرى أفضل بدون القات... لو كان المستقبل الأفضل يتعلق بهذه النبتة وحدها لما تردد اليمنيون في التخلي عنها فهم في عاداتهم وتقاليدهم قادرون على التكيف بما يوافق مصالحهم الم يقرروا مكافحة الجراد عبر استهلاكه أليس البلد الوحيد الذي يخشاه الجراد هو اليمن؟ قال:.. ويأكلون الجراد أيضا...." ياعين"!! قلت:هل تعتقد أننا نحن اللبنانيين نثير إعجاب العالم عندما نأكل الكبد نيئا.أتعتقد أننا نثير إعجاب اليمنيين عندما نقول لهم أن قسماً كبيراً من مواطنينا يأكلون الضفادع أو «العقاعق» كما تسمى عندهم؟ قال: لا وجه للشبه. قلت: بلى. أنت تحب أن يكون الجميع مثلك يأكلون ما تأكل و يتكلمون كما تتكلم ويقضون أوقات الراحة كما تقضي ويحبون الموسيقى التي تحب، ومن حسن الحظ انك لا تحكم العالم وإلا أصبح مثيراً للسأم يشبه الناس فيه بعضهم بعضا. قال ثم قلت ثم قال وقلت...إلى أن تملكني الضجر وغادرت المكان. أطفال إب كنا أربعة من الزوار العرب على المنصة.صفقنا طويلا للأطفال المشاركين في العروض بدا لنا أن هؤلاء هم الأكثر استمتاعاً بالمشاركة.كانت أخطاء بعضهم بالتقدم والتأخر ورفع الايدي أو بترديد العبارات " مهضومة". بل لاح لي أن أحدهم كان يبتسم عندما يكتشف أنه لم يتبع الخطوة المناسبة بالقياس إلى رفيقه. أخمن أنه لم يتملك الأطفال أي أحساس بالنقص أثناء أداء حصتهم بالعرض.كانوا كأنهم يلعبون في ملعب المدرسة، لكنهم لدى الاقتراب من المنصة لربما بدت الدهشة تسيطر على وجوههم ذلك أن الدولة برموزها الكبيرة كانت تنظر إليهم فضلا عن آبائهم و لربما الأقارب والجيران. أتخيل أطفال العرض الاحتفالي مساء في منازلهم يروون لأهلهم تفاصيل ما فعلوا ويتحدثون بحماس عن مشاركتهم وعن أخطائهم وأخطاء زملائهم. أتخيل أن العرض كان حدثا بارزا في حياتهم ولن يفارق ذاكرتهم إلى الأبد... أقول أتخيل ولا استخدم فعل التأكيد والجزم ولو أردت لصح الوصف ذلك أنني كنت طفلا ذات يوم وربما لحسن الحظ ما زالت بقايا طفولة ما في إحدى زوايا ذاكرتي المدججة بعالم الكبار المثير أحيانا كثيرة للضجر. في استراحة ذمار أخذ السائق يصفق عندما علا صوت المغني السوري علي الديك الذي رافقنا مع جورج وسوف والكبسي وأبو بكر بلفقيه وأم كلثوم في طريق العودة من إب إلى صنعاء برا.قلت رجاء لا تصفق حتى لا تفقد السيطرة على السيارة. قال لا تخف يا أستاذ.!! قلت لست خائفا.قال: الأستاذة (الوحيدة التي ترافقنا في السيارة) غير خائفة فما كان منها إلا أن أردفت بعبارة قاطعة: أنا لا أخاف لأنني أقود السيارة مثله في بلد إقامتي...قلت: أنا لا أقود مثل أحد ولست خائفا. السائق المهذب كان يبدي أقصى درجات الاحترام للضيوف وهو لم يصفق من بعد لكنه لا يعلم أن الأستاذة المذكورة تعرضت لحادث اصطدام سيارة حملها على التزام الكرسي المتحرك لمدة ثمانية أشهر دون انقطاع ولا يعلم أيضا أن المتحدث تعرض العام الماضي لحادث سير في المكان نفسه كان معه على وشك أن يفقد وعيه.وسط هذا الحوار كنا نجوب الشارع الرئيسي في ذمار فقاطعت سائلا:ألا يوجد مقهى في المكان للراحة قليلا .. قال السائق بلى..و بعد دقائق كنا في استراحة ذمار. واجهة الاستراحة الطويلة تكاد تبلغ الخمسين متراً تتقدم بناء محلياً من طابق واحد. جلسنا على شرفتها التي تعلو عن الأرض لنحو المترين بعرض لا يتعدى كثيراً الأمتار الثلاثة.كراسي الشرفة كما كراسي الداخل بلاستيكية بيضاء متسخة بفعل الغبار الذي لا محل له في هذا المكان شبه الصحراوي. مع الشاي فضلنا تناول اللوز " الخارجي" والزبيب" الخولاني" من بائع يعرض بضاعته تحت شرفة الاستراحة. هل أنت متأكد من نظافة المكان؟ لا. لست متأكدا ولا يهمني في هذه اللحظة الرائعة التدقيق في مثل هذه الأمور. أفضل في مثل هذه الحالات الثقة بأقوال الناس ومن بعد " يحلها رب العالمين". كان الوقت غروباً وكانت الشمس ترخي ما تبقى بحوزتها من أشعة الضوء ببطء على المكان. أما الشاي الذي استمتعت به ذات يوم خلال " تي تايم " في أحد أفخر بيوت الشاي في لندن كان له في استراحة ذمار مذاقا خاصاً إلى حد أنني زدت مرة وثانية وثالثة أمام دهشة النادل الذي ربما قال في سرّه أن بساطة الشاي في استراحته لا تستحق كل هذه المبالغة. ... ما لا يعرفه صاحب الاستراحة المتواضعة وما لا يعرفه آخرون من صحبة الطريق أن كمية"الادرينالين" التي تتجمع لدى المرء في أمكنة يحبها ويتعلق بها كفيلة بمكافحة كل الأمراض والجراثيم والبكتريات. في ذلك المكان لا شيئ يستحق الوصف إلا الفضاء الواسع الذي يملأ العينين والبساطة التي تحرر الكائن المعقد من كافة قيوده وحدوده وممنوعاته والهواء الجريء الذي يقتحم الوجوه ونظرات الناس المشوبة ببعض الارتياب والدهشة ورد الفعل الفطري لرؤية زبائن غريبي الأطوار... كنت غارقا في هذه التأملات عندما تسللت إلى أذني عبارة:... "مساكين هؤلاء الناس". شعرت بضجر قاتل جراء هذا الحكم الأبله المستمد من عالم الفنادق المتشابه والمسكون بالابتسامات والعبارات المنافقة..ثم قلت هيا بنا