كنت في التاسع من الشهر الجاري ضيفاً على برنامج «حديث الثورة»وكان متمحوراً حول السياسة التركية تجاه سوريا لكن النقاش اتسع خلال الحلقة ليشمل بعض محطات التاريخ العثماني وكان أن ذكرت أن تدخل تركيا الاستفزازي في الأزمة السورية يمكن أن يعيد فتح صفحات سلبية في تاريخ العلاقات بين العرب والعثمانيين من بينها أن السلطان العثماني عبد المجيد الأول منح البريطانيين مدينة عدن بوثيقة رسمية وكانت هذه الوثيقة فاتحة احتلال لجنوب اليمن سيدوم لأكثر من قرن وربع القرن وان الفرنسيين احتلوا الجزائر وكانت ولاية عثمانية أيضاً دون أن ترمش عين للسلطان نفسه هذا فضلاً عن امتناع العثمانيين عن نجدة العرب في الكارثة الأندلسية وهم حكام العالم الإسلامي وورثة الخلافة الإسلامية التي بادروا من بعد لإلغائها في عشرينيات القرن الماضي. تلقيت بعد الحلقة عدداً من الرسائل الالكترونية يستوضح أصحابها هذه النقطة ومن بينها ثلاث رسائل من أخوة يمنيين يطلبون تفسيراً للسيرورة التي تم خلالها منح عدن للبريطانيين وقد وعدت بشرح هذه النقطة في مقالي الأسبوعي عل أصدقاء آخرين أيضاً يطرحون الأسئلة نفسها دون أن تصلني رسائلهم، وهنا استعين بفقرة وردت في كتابي» اليمن الثورتان الجمهوريتان الوحدة « وكتاب «ملوك العرب» للرحالة أمين الريحاني. في ظروف القرن التاسع عشر حيث ساد النظام الدولي الإمبراطوري كان البريطانيون يتطلعون دائما للسيطرة على مدينة عدن الواقعة على طريق إمبراطوريتهم في الهند الشرقية. و كانت عدن حينذاك عبارة عن ميناء خارج عن السيطرة الدولية على البحار والموانيء تلك السيطرة الموزعة في حينه على الدول العظمى فقد كانت فرنسا تسيطر على البحر الأبيض المتوسط وروسيا تسيطر على البحر الأسود وبريطانيا على البحر الأحمر وبالتالي كان من غير الطبيعي بالنسبة للبريطانيين أن يظل هذا الميناء خارج سيطرتهم بل شوكة في الفضاء البحري الذي يسودونه. و على الرغم من تصميمهم الدائم على احتلال هذه المدينة كان لا بد أن يتدخل حدث كبير طارئ لتسريع عملية الاحتلال وقد تمثل هذا الحدث باستيلاء والي مصر في حينه محمد علي باشا المنشق عن الدولة العثمانية والذي يلقى تشجيعاً فرنسياً استولى على سوريا ولبنان وتهامة ( 1836 1840 ) وأراد أن يحتل عدن لتوسيع سلطته في البحر الأحمر الأمر الذي كان يشكل تحدياً كبيراً للانجليز ما أدى إلى تدخل مباشر من رئيس الوزراء البريطاني اللورد بالمرستون فوجه خطاباً لمحمد علي باشا يحذره من مغبة احتلال عدن وينذره من انه لاحق له في البلاد العربية وقد بادر رئيس الحكومة البريطانية إلى توقيع معاهدة رسمية مع الدولة العثمانية تتيح لبلاده التجارة في البلدان العربية وطلب من الباب العالي أن يمنحه عدن وقد حصل عليها بالفعل بواسطة فرمان من السلطان عبد المجيد الأول « كما يوضح الرحالة أمين الريحاني ( ملوك العرب ص 414 ) ومؤرخون كثر من بعده. « .. من هو سلطان العثمانيين حتى يهب بلاداً ليست له» بهذه العبارة خاطب سلطان لحج القبطان الانجليزي هينس الذي جاء لاحتلال عدن وفي حوزته تفويض خطي من السلطان عبد المجيد يسمح له باحتلال المدينة. (ملوك العرب أمين الريحاني ص 414 418 ). وعليه لم يعترف بالاحتلال وبادر إلى مقاومته مدعوماً من سلطان الفضلي واستمرت المقاومة ُثلاث سنوات استشهد أثناءها عدد من أقارب السلطان اللحجي المباشرين. تبقى الإشارة إلى تذرع البريطانيين بحادثة السفينة الهندية «دوريا دولت» لاحتلال عدن والقول لأهاليها أن ما يفعلونه ليس احتلالاً وإنما انتقالا للسلطة من العثمانيين إلى البريطانيين وان على الأهالي أن يستجيبوا لأوامر السلطان العثماني ولي أمرهم غير أن أحداً من اليمنيين لم يكترث لهذه الحجة المنافقة واستمرت المقاومة ضد المحتلين متقطعة إلى أن طردوا من عدن وجنوب اليمن بالقوة المسلحة في 30 نوفمبر تشرين الثاني 1967 .وأعود إلى ما بدأت به في مطلع المقال.. ومن بين الرسائل التي وصلتني واحدة يقول صاحبها انه قرأ بعض الآراء لانفصاليين يمنيين يزعمون أن بريطانيا احتلت عدن بسبب « غرق سفينة دوريا دولت و نهب محتويات السفينة وامتناع سلطان لحج عن تعويض المتضررين» وبالتالي لا علاقة للعثمانيين بهذا الحدث التاريخي وعلى الرغم من أني لست واثقاً من دقة الخبر المنقول ومن مصدره الأول فإنني أشير إلى مسألتين في غاية الأهمية الأولى تتصل بالنظام الدولي السائد في ذلك الحين والذي لا توجد دولة واحدة خارجه وهو النظام الإمبراطوري ونحن العرب كانت أراضينا تقع تحت سيادة الإمبراطورية أو الخلافة العثمانية وبالتالي فان التصرف بأي جزء منها يجب أن يتم إما بموافقة الإمبراطورية المعنية أو غصباً عنها وما تم في عدن جرى وفق الأعراف السائدة أي أن المحتل البريطاني لم يتصرف إلا بعد أن حصل على تصريح من صاحب الشأن وهو السلطان العثماني. ورغم ذلك ثمة من يقول أن البريطانيين كانوا قادرين على احتلال عدن دون العودة للسلطان العثماني وهو قول صحيح بيد أنّ الاحتلال بموافقة الطرف المالك أفضل بما لا يقاس من الاحتلال من دون موافقته أو غصبا عنه. أما المسألة الثانية فتتعلق بنهب وتعويض أصحاب « دوريا دولت « وهنا أخالف صاحب الرأي المفترض جملة وتفصيلاً ذلك أن حادث السفينة ما هو إلا ذريعة للاحتلال تماماً كما تذرع الفرنسيون بضرب القنصل الفرنسي لاحتلال الجزائر مع الإشارة إلى أن سلطان لحج تعهد بدفع التعويضات، واعتذر عن نهب السفينة فكان أن رفض البريطانيون التعويض والاعتذار واجتاحوا عدن ولم يغادروها إلا بعد مضي قرن وربع القرن. وإذا كان لا بد من استخلاص عبرة في هذا الشأن فهي أن أحداً ما كان بوسعه احتلال شبر واحد من ارض اليمن لولا الضعف الذي ساد هذه البلاد في حينه وهو ناجم عن سؤ تدبير أحوالها وعن تنازع أهلها وتفرقهم أيادي سبأ. وحتى لا يكون حال هذا البلد اليوم كحاله البارحة وحتى لا يفتح شهية الطامعين بأرضه ربما على أهل هذا البلد أن يعودوا إلى طاولة الحوار لتدبير شؤون البيت اليمني بما يتيح انتصاراً لليمن كل اليمن ولليمنيين كل اليمنيين .. هنا الوردة وهنا يجب أن ترقص كما يقول الماركسيون.