حتى "جمعة الكرامة" كان النظام والمعارضة يتفاوضان كفريق واحد يختلفون كسلطة ومعارضة صحيح أن النظام يستقوي بالدولة والخارج والمعارضة تستقوي بالثورة، لكنهما جميعاً يريان أن انتصار الثورة في تحقيق هدفها خطر يهدد وجودهما, لذا كان لزاماً عليهما أن يتفقا على عدم حدوث ذلك, لكن النظام استبق ذلك بإقدامه على ارتكاب مجزرة "جمعة الكرامة" الأمر الذي مكن المعارضة من الإمساك بزمام الثورة أكان من خلال تأييدها العلني, أو بإعلان اللواء (الاحمر), دعمه لها وحمايتها, في خطوة قوبلت بموقفين متضادين من الثوار قسم رحب وهم قيادات وقواعد الاصلاح، ومعهم مواطنون كانوا يرون أن ذلك جعلهم يأمنون شر الفرقة التي تحيط بالساحة من جهة, واضعاف النظام من جهة آخرى وقسم رفض رفضاً باتاً على اعتبار أن تلك الخطوة مؤامرة للاستحواذ على الثورة وإفراغها من محتواها، وكان من يتصدر هذا الفريق انصار الله الذين كانوا قد انضموا الى الساحة، وأصبحوا قوة مؤثرة- ومعهم شباب الاحزاب والمستقلين والنخب المدنية الرافضة عسكرة الثورة, وهكذا بدأ مسار جديد, زخم شعبي عارم، ومفاوضات سرية وعلنية, وتدخل خارجي فاضح يقوده السفير الامريكي، وهيمنة واضحة من اللجنة التنظيمية التي أنشأت لجاناً مماثلة في كل المحافظات.. وأصبح الوضع يتأرجح بين شد وجذب بيد المطالبين بالحسم الثوري وبين من يتبنون الضغط الشعبي لدعم التفاوض.. مما وسع هوة الانقسام في كل الساحات. وللاختصار, نرى انه لابد من الاشارة الى جملة من الحقائق: 1 - أن الواقع الذي أفرزه ما بعد التحاق (الاحمر) بالثورة شكل صدمة له, إذ ان نسبة لا بأس بها ممن كان يثق بتبعيتهم له من قادة ألوية وقيادات سياسية وأمنية وقبلية قد خذلوه وأن صالح نجح في استمالتهم اليه ناهيك عمن التزموا الحياد, وهذا جعله يشعر أن ما كان يرغب فيه من انشقاقه عن النظام بان يكون هو البديل أصبح بعيد المنال, ووجد نفسه من رجل (صالح) الى رجل الاصلاح الذي استقوى به على كل القوى الاخرى وبقوته العسكرية والأمنية والقبلية تمكن الاصلاح من السيطرة على الساحات والتحكم بمسارها. 2 - لا يستطيع أحد أن ينكر دور القبائل اليمنية المؤثرة في الثورة وحمايتها ورفدها بالجموع الثائرة- رجالاً ونساء- لكن الأهم في دورهم تمثل في نجاحهم بإفشال محاولات النظام استقدام ألوية الحرس الجمهوري الضاربة المحيطة بصنعاء أوفي المحافظات إلى العاصمة للإجهاز على الثورة, بل ووصل الامر الى حصار بعض الالوية التي واجهت وقوفهم ضدها بالحديد والنار, ودفعوا تضحيات جسيمة ووصل الصراع الى اقتحامهم بعض المعسكرات وسيطرتهم عليها. 3 - ان المعارضة و(الاحمر) تمكنوا من استخدام الثورة وسيلة ضغظ على النظام والقوى الدولية في تحسين شروط التفاوض بعيداً عن الهدف الاساسي المتمثل بإسقاط النظام تحت ذريعة ان الثمن سيكون فادحاً من الضحايا العزل وحين حاولت بعض القيادات الثورية التمرد على تلك الخطة والتوجه نحو الحسم كما حصل في مسيرة السيطرة على مجلس الوزراء التي نظمها كل من (توكل كرمان) وشباب الحسم (انصار الله) وشباب الناصري) و(الاشتراكي) وكادت تنجح إذ فوجئوا بمن يهاجمهم ويقطع أوصالهم من الخلف واتهمت الفرقة وقائدها الذي أنكر وادعى أن من قام بذلك قوات النظام السابق لبست لباس الفرقة لتتمكن من اختراق المسيرة.. وبعدها فرض حصار على "توكل" في خيمتها إلى أن منحت (نوبل) التي فكت حصارها في حين صدرت التوجيهات لشباب الناصري والاشتراكي بعدم الخروج دون أوامر حزبيهما, وترك (الحسم).. انصار الله وحده الذي كرر المحاولة في مسيرة "كنتاكي" والضربة التي تعرض لها. 4 - مثلت حادثة النهدين مفصلاً آخر في يوميات الثورة, بما أحدثته من تعاطف مع (صالح) وأركان حكمه, وإن لم تؤثر على الزخم الشعبي الثوري لكنها أدخلت الجميع غرفة الإنعاش, فلم تعد المسيرات إلا لتحريك مجلس الأمن وتوالت المذابح بحق الثوار, استجداء من المعارضة للسفير الامريكي ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي في حين بدا حلم "الحسم الثوري" بعيداً وعلى الاخص بعد فشل مسيرة الحياة في تحقيق ما كانت تعتبره عجز ساحة صنعاء عن تحقيقه, وهو الزحف على دار الرئاسة وكان الانكسار عميقاً.. 5 - مثلث الساحات مدارس وعي بيد الثوار كانت الجموع تنهل من ينابيع ثقافة جديدة, من مشارب مختلفة, والأهم من ذلك هو اكتشاف الثوار بعضهم بعضاَ حيث سقطت (تابوهات التحريم والتجريم والتكفير) ووجد الجميع انهم جميعاً وطنيون ومسلمون واوفياء ومناضلون ...الخ. وتحولت الساحات الى ورش عمل مستدامة وفي كل مناحي الفكر كان جيلاً من الشباب يتفتق مشرقاً خالياً من كل الامراض الحزبية والمناطقية وأجزم أن شباب الاصلاح أكثر من أصابهم التغيير بل لقد تمردوا على القمقم الحزبي, وتعرفوا على (غاندي, وجيفارا, وقرؤوا الشعر واستمعوا للموسيقى واكتشفوا (ريال مدريد, وبرشلونة) تشظي شباب الاصلاح وطلاب جامعة الايمان, وتنازعتهم رؤى وافكار جديدة, وأفاق الحزب على ان ثورة التغيير قد أتت أكلها في شبابه فكان لابد أن يقدم على استدارة يوقف بها هدير نهر التغيير ففتح جرابه المليء فأقدم على خطوتين: أولاهما: شق صفوف ائتلافات وتنسيقات الثوار حزبياً, بإلغاء تضحيات ونضال شباب هذا الحزب وتخوين ثوار آخرين. وثانيهما: خلق عدو جديد غير النظام, فكان شباب (أنصار الله) داخل الساحة، ثم امتداد المواجهات الى المحافظات تحت ذريعة أن الانصار يسيطرون على المناطق التي اسقطتها الثورة ..الخ, كل ذلك أوصل الوضع إلى (اتفاق الرياض) والتوقيع على تلك المبادرة (الوصاية) 6 - الدور المشرف للمرأة اليمنية في صفوف وساحات الثورة في كل اصقاع الوطن انخرط في نشاط منقطع النظير, ومنح الثورة وهجها وبهاءها وكانت جموعهن يتدفقن سيراً على الاقدام لعشرات الكيلومترات دون خوف أو كلل أو ملل, ويكذب من يقول أن حزب الاصلاح هو من كان يحشد النساء, لأننا كنا بين صفوفهن من كل المحافظات- من كل الفئات ويؤكدن أن خروجهن نصرة للثورة والشباب, ينشدن العدل والمساواة ولا ابالغ إذا قلت أن تجربة المشاركة النسوية في ثورة فبراير تستحق التوثيق والدراسة واستخلاص أروع الدروس والعبر. 7 - عودة الروح الى الوحدة اليمنية وعلى الأخص من قبل ابناء المحافظات الجنوبية والشرقية الذين التحقوا بساحات الوطن حيثما كانوا, وأنشأوا ساحاتهم في محافظاتهم, وساد روح الإخاء والتسامح واتفق الجميع بان المشكلة ليست مع الوحدة ولكن مع النظام الذي أساء اليها. 8 - تمويل الثورة ودعمها مادياً, وقد كثر اللغط حول هذه المسألة والحقيقة الناصعة ان الشعب اليمني هو من مول ثورته من أغنى الأغنياء الى أفقر الفقراء ممن كان يتبرع بالقاطرات المقنطرة الى من يتبرع بكيلو طحين ونصف كيلو سكر من لقمة أولاده إذا كان هناك دعم خارجي فقد استحوذ عليه من استلمه, أما الساحات فبريئة من ذلك, صحيح كان هناك من يصرف على التنسيقات التابعة له لكن ليس في تغذية ولا أنشطة الساحات. ختاماً هذه الحقيقة المرة: كانت مصيبة بعض الثورات العربية أنها تفتقد المنظومة الحزبية التي تقودها, مما أدى الى اختطافها من جماعات إرهابية أو عسكرية, أما ثورة فبراير فكانت مأساتها وجود تلك المنظومة التي اختطفتها ثم تشاركت مع النظام في اقتسام السلطة على حساب مبادئها وأهدافها. * عضو مجلس الشورى