احتل الشاعر الكبير أحمد الجابري الذي ولد عام 1936 في ثغر اليمن«عدن» -بمقدرته على كتابة القصائد الغنائية الفصيحة والعامية- المرتبة الثانية -بعد «الفضول»- في إثراء المسيرة الفنية لصوت اليمن الطروب {أيوب} التي هذبت الأذواق وألهبت الأحاسيس وأسرت القلوب. إسهام إرثه الإبداعي في تشكيل الوجدان الجماعي يُعدُّ الشاعر الراحل أحمد غالب الجابري من الشعراء القلائل الذين أجادوا إبداع القصيدة الغنائية اليمنية بمستوييها الفصيح والعامي بأسلوب غاية في الظرافة والإمتاع، كما أنَّ جميع قصائده التي تصنف جميعها نصوصًا شعرية رائدة تتسم -بالكثير ممَّا لا يُستطاع- من الجزالة والعذوبة والسهولة والامتناع. ولأنَّ تلك النصوص الغنائية -الوطنية منها والعاطفية- كانت تتماهى -بتتابعٍ مزمَّن- مع كافة قضايا الوطن ومع هموم المواطن في كافة ربوع «اليمن»، فقد أسهمت -على مدى مشوار الجابري الإبداعي- في تشكيل الوجدان اليمني الجماعي، فقد كتب قصيدته الغنائية الوطنية والعاطفية بعدد من اللهجات المحلية، الأمر الذي مهد السبل أما أعماله الإبداعية الشعرية للتعامل مع معظم القامات الفنية اليمنية التي ذاع صيتها محليًّا وعربيًّا مثل الفنان الكبير «محمد مرشد ناجي»، والفنان الكبير «أيوب طارش عبسي»، والفنان الكبير «أحمد بن أحمد قاسم» والفنان الكبير «محمد سعد عبدالله» والفنان الكبير «عبدالباسط عبسي»، والفنان الكبير «فرسان خليفة» والفنان الكبير الدكتور «عبدالرب إدريس»، وغيرهم من أساطين الفن الغنائي الذين ما تزال تتردد إيقاعات أناشيدهم الحماسية القوية وإيقاعات أغانيهم العاطفية الشجية في كافة أرجاء العربية السعيدة وفي أقطار عربية عديدة. رحيله مثخنًا بأثقال التجاهل والإهمال ظل الشاعر الراحل على مدى عقود زمنية عديدة بحرًا شعريًّا زاخرًا وقامة إبداعية ذات مواصفات قياسية فريدة تتردد أصداء قصائده التي صرحت بها حناجر عمالقة الفن الذين ثمل طربًا لسماع روائعهم الغنائية كل شبرٍ في الوطن من «ميدي» إلى «شِحِن» ومن «باقم» إلى ساحل «أبين» وساحل «عدن»، فتفاعل مع كل نصٍّ شعريٍّ مكتوب ومع كل عملٍ فنيٍّ مصورٍ أو مسجل ملايين اليمنيين تفاعلًا يخالطه الكثير من الحماس للانخراط في ميادين العمل وآخر ينعش ما كان قد غفا بين جوانح المتفاعل من الشعور بالأمل، إلَّا أنَّ هذا البحر الزخار والغيث المدرار قد جُوزيَ من مجتمعه الشديد الافتقار إلى قيم الوفاء والإحسان إلى الجار -بعد أنَّ أخذت صحته بفعل ما ألمَّ به من أمراض في الانهيار- جزاء سنمَّار، فقد قضى ال3 العقود الأخيرة من عمره -بما لا يتناسب من بعيدٍ أو من قريب وإبداعاته الشعرية الخالدة- وحيدًا في «دكانٍ» صغيرٍ بمدينة «الراهدة» التي ستظل شاهدة على كل ما مني به من تجاهل أبناء أمته الجاحدة ومن إهمال مسؤولي حكومته العديمة الفائدة، ولعل هذا ما جعل الشاعر ينطوي -في أحلك لحظات سقمه- على ذاته ويلوذ بقبر أمه معبرًا عن ذلك كله بقوله: يا خليليَّ إنْ دنا الموت مني فادفناني بالقُرب من قبر أمي حيثُ كانت ولا تزال تنادي من ثرى لحدها، ومن قبلُ باسمي آثَرَتْ أن تموت، والموتُ حقٌّ وعلى صدرها من الوجد رسمي كم وددتُ الحياة بالقُرب منها فادفناني، فليس لي غير جسمي تشييع متواضع وأفول للنجم الساطع من المحزن جدًّا أن يُتركَ شاعر وطني بحجم الأستاذ أحمد الجابري يعاني الحاجة وآلام المرض دون سندٍ رسميٍّ أو شعبيٍّ مفترض، وكأنْ لم يكن له من الإبداع الشعري الوطني أدنى حظ، بل إنَّ الأشد إيلامًا أن لا يشارك -يوم الأحد الماضي- في تشييع جثمان مبدع: «عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم»، و«على امسيري على امسيري ألا بسم الله الرحمن»، و«أخضر جهيش مليان»، و«شفته ناقش الحنَّا» و«المَيّ والرملة»، و«يا صبايا فوق بير الماء والدنيا غبش»، و«أشتي أسافر بلاد لا تعرف إلاّ الحب»، «يا بائعين الصبر»، و«شبكني الحب بصنارة»، و«صباح الخير يا وطني»، و«لمن كل هذي القناديل» وفي مواراته الثرى إلَّا عدد قليل من الجيران والأصدقاء، بعيدًا عن ضوء القناديل التي أسرجها من دمه احتفاءً بمناسبة استعادة لحمة شطري الوطن، في حالةٍ من الجحود ونكران الجميل تعكس ما كان قد شعر به في سنوات ما قبل الرحيل، وعمد إلى تمثله بقوله: أضاعوني وهم أهلي بلا بيتٍ ولا سندِ أعيش العمر مغتربًا وحيد الدرب في بلدي توارى الناس من حولي ومات الشعر في خَلَدي فمن أشكو وهم أهلي