جاءني الخبر أولاً من جارٍ في الحي، بلهجةٍ تجمع بين الغضب والافتخار: «قطعوا الكهرباء من لغاليغها؟!» ابتسمت في داخلي، كمن تذكّر «إتريكًا» قديمًا يلمع في ديوان شيخ القرية. لم يكن السؤال عابرًا، بل إعلانَ حربٍ صغيرة تُعاد كل يوم على جبهةٍ واحدة: جبهة الضوء.
في بلدٍ كان الناس فيه يتبارون على «الإتريك» الذي يجعل من ليل القرية نهارًا، نعيش اليوم نظامًا أعقد: مزوّدون، مفوترون، مهادنون، لصوص أعمدة، ومخابرات أنصاف الليالي.
كل جهة لها حجتها، وكل حجة تنتهي في بيت المواطن، بلا نور.
قرأت البارحة قصة طريفة أرسلها لي صديقي د. أحمد عبد اللاه، عن رجلٍ عاد من تعز ومعه إتريك، فأضاء الديوان فاندفع الناس نحوه كأنهم أمام أديسون قدّس الله سره بشحمه ولحمه.
أما في عدن اليوم، فلا حاجة لأديسون؛ يكفي أن تُشغّل منظومة بالشيء الفلاني أو تضع لوح شمس فوق السطح، ليغدو الحيّ محط أنظار الغلابى، والناس يخرجون يسألونك: «من وين لك الكهرباء يا جني؟!» سؤالٌ اختزل التاريخ كله في عبارةٍ قصيرة.
الضوء في عدن لم يعد رفاهية، بل صار معيارًا للكرامة، تقول العروس لزوجها: «متزوجين ولا لاقين إتريك؟»، فتتحوّل ليلة الدخلة إلى مفاوضةٍ شاقة مع كهربائي الحي؛ ولأن الناس تطوّرت، فقد تطوّر النصب أيضًا.
لكن لا أحد يكتب الحقيقة المرة: «المازوت وحده هو التصريح الذي يضمن لك ضوءً بين المغرب والفجر، إلا في حال السرقة أو الفساد أو العتمة العامة».
وربما آن أن نرددها بصدق:«شكرًا مازوت الخير، إن فرجت يومًا... وقد لا تفرج».
الحرب على الضوء ليست مجرّد انقطاعٍ فني؛ إنها منظومة اجتماعية وسخة.
في الصباح ترى وجهاً عبوساً لأن بطارية المروحة "زلجت"، وفي المساء تراه يقرأ المعوذات على ضوء الهاتف المحمول.
هكذا تحوّل النور إلى اختراع شعبي، تُقاس فيه المصابيح بمدى حيلة الإنسان في قهر الظلام.
الشيخ القديم في قصة د. عبد اللاه خاف من الجماعة التي جمعها الإتريك، واليوم هناك من يخاف من شعبٍ قد يجتمع على ضوءٍ شمعة، فيقلب عاليها واطيها.
أما نحن فنتعلم التكيّف كما نتعلّم الظل: نختار أوقات الأكل على توقيت الكهرباء، ونخطّط للسهر حسب موعد "نبضة" التيار القادمة من محطة الرئيس.
أضحك حين أتخيل "الإمامين الجدد": شركةٌ تضبط العدّاد، ومخبرٌ يراقب استهلاك الكهرباء كما لو كانت جناح جندٍ معادٍ.
وفي مقاهي عدن، حيث تُصنع الأخبار وتُعاد تعبئتها، تُروى حكايات "صفقات الطاقة البديلة" كما تُروى حكاية الإتريك القديم، ببطولةٍ جديدة:«جبت لوح شمس من تاجر في شارع التسعين يعرفه صالح العبيدي، ومن يومها وأنا تيس الحافة، وسارق الضوء من عين أم الشمس».
لكن السخرية الحقيقية أن الحرب على الضوء توحّد الناس في شيءٍ واحد: الإبداع في التكيّف، كما تفعل الأغنام في الزريبة.
ولا حل إلا أن نوزّع الإتاريك على البيوت، ونوفّر على العائلة جهد الصراخ وسقف الشتائم.
في النهاية، الإتريك ليس مجرّد أداة إضاءة؛ إنه مرآة.
مرآة تكشف كيف تحوّلنا من بشرٍ يبحثون عن الضوء إلى مخلوقاتٍ تضع النور في ميزان الحسابات السياسية والاقتصادية.
البارحة، وأنا أسير في شوارع كريتر المظلمة، شعرت بأن الإتريك القديم ما زال يتردد في أزقة المدينة.
حلمٌ بسيط بأن يكون الضوء مشتركًا، حلمٌ يجعل الناس يخرجون في زفّةٍ واحدة، لا زفّة عرسان، بل زفّة ضوءٍ ينير البيوت بلا شروط، زفّة تحتفل بالإنسان، لا بالتيار الذي خرج ولم يعد.
حتى ذلك الحين، سنواصل حربنا الصغيرة على الضوء، بسخريةٍ لاذعة، ونمزّق الليل بابتسامةٍ كهربية مكتوبة بالصميل على الجدران: «نريد إتريكًا لكل بيت يا عيال المحترمة» وبس...