من يتذكر منكم المرة الأخيرة التي شاهد فيها سياحاً يطوفون شوارع مدينته، بتلك السراويل النصفية والفنايل ذات الألوان الزاهية؟ كنا نحن سكان المدن نمر قربهم ونحاول أن نلقي لهم الود عبر كلمات انجليزية قليلة، فيردون بابتسامات بيضاء وعيون زرقاء غائرة، وغارقة في التأمل. ولأنهم امتداد لثقافة وحضارة قائمة على أسس وتخطيط عميق، فقد كانت رحلاتهم إلى بلاد الشرق تسير وفق "plan & map" خطة وخريطة" محكمة الدقة.. كانوا يفترشون الأرض ويخرجون خرائطهم لتحديد وجهتهم التالية، فيما كنا نهمس: هؤلاء جواسيس ومخبرين جاءوا يصوروا المعسكرات ومقرات الحكومة المهمة!
هكذا نشأنا بعقليات تآمرية، لا ترى في الغربي غير مصاص نفط، وجاسوس، صحيح قد تفعل حكوماتهم ما هو أبشع من هذا، لكن يجب الفصل بين الحكومات والشعوب، هؤلاء نشأوا في ثقافات ترى في السياحة مكوناً أساسياً في حياتهم، يرون فيها ما هو أعمق من الجانب النفسي إلى الجانب العضوي، إحدى الدراسات العلمية تقول إن من يسافرون للتنزه بين مرتين إلى خمس مرات في السنة يكونون أطول الناس عمراً، وأكثرهم صحةً.
تخيلوا سائحاً يمشي في العاصمة من أمام جولة الساعة ويرى على يساره معسكر النجدة، ويصوره، ماذا سيكتب في تقريره كمخبر: رأينا معسكر النجدة بعتاده الضخم: أربعة أطقم نيسان قديم، و20 جندي "مبحشم" بقات سوطي، فيما كان عند البوابة جندي ينتف دقنه، وهو ينظر لصديقه الذي يعاني من مغص كلوي!
الغرب وأمريكا تحديداً ليسوا بحاجة للإنفاق على الجواسيس، فرجالهم في الداخل يتسابقون على تقديم المعلومات، ولهم أذرع من أعلى هرم في رأس السلطة، إلى الوزراء وقادة الجيش وكبار رجال المخابرات، والمشايخ، وقادة الأحزاب، أما أذيالهم في الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، والشخصيات التي يجندونها ويلمعونها بالجوائز، ويمدونها بالأموال بطرق ملتوية لا حصر لها.
وشبكة الاتصالات العالمية وشبكة الانترنت كلها بيد أمريكا، وتطلع على أدق الخفايا... ثم إن شركة جوجل تقدم عبر برنامج "جوجل إرث" كل المعسكرات والقصور في كل العالم، وهي عارية كالفضيحة، لم يحدث أن دخلت دار الرئاسة اليمنية، أو منزل الرئيس هادي، وعبر جوجل إرث رأيت كل التفاصيل الخارجية.
الحديث مؤلم عن غياب السياح من شوارع ومدن هذا البلد السياحي الجميل، كان وجودهم يمنحنا الإحساس بالأمان، وبأن القادم أجمل، وأننا نعيش فوق جغرافيا كانت بالأمس مهداً للحضارة والتاريخ.. مرةً شاهدت سائحة غربية في وقتٍ متأخر من الليل وهي خارجة من ميدان التحرير بالعاصمة تشق طريقها باتجاه البونية وفمها محشو بالقات كأكبر مولعي، يااااالله كم أشعرني منظرها بأننا نعيش في بيئة آمنة قابلة للتعايش والتسامح، وكم أن أبناء هذا الوطن متمسكون بقيم الألفة والمحبة كما أمرهم دينهم.. وأن الوطن ليست وكراً لرجال القبائل الهمجيين الذين شوهوا كل جميل، بل أحرقوا سمعة اليمن في الخارج، حيث الأفراد يخطفون السياح في الداخل، وشيوخهم يتسولون الفتات من دول الخليج.. بالأمس بعض الهمج من قبيلة مراد يقولون إذا لم تدفع لهم الدولة الفدية المطلوبة، فإنهم سيبيعون المختطف الألماني لتنظيم القاعدة ب 14 ألف دولار، وقبلهم أبناء ذات القبيلة خطفوا نجل رجل الأعمال محمد منير، والأربعاء الماضي رجال الداخلية والدفاع حرروا مختطفاً إيطالياً أثناء اقتياده عبر رجال القبيلة نفسها إلى مأرب، وشيوخ القبيلة وعقلاؤها صامتون برضا، وإذا حدث قتيل منهم، تداعى الجميع للثأر أو البحث عن دية، خاصة إذا كان الفاعل الدولة أو رجل أعمال، أما من يشوهون سمعتهم بالاختطاف والفدية فالمسألة حرفة وطلبة الله، لا عيب فيها.
أتذكر صوت الصديق نبيل الفقيه وزير السياحة السابق، حين كنت اتصل به في نصف ونهاية العام، لأحصل على تصريح صحفي عن عدد السياح الذين زاروا اليمن، والجنسية الأكثر تكراراً، وكم بلغت عائدات خزينة الدولة من السياحة في ذلك الموسم.. الآن يا صديقي لا عائدات ولا سياح يزينون شوارع مدننا.. حتى موظفو المنظمات الدولية يتم اختطافهم، والاتجار بهم.