هل هناك مواطن عربي لا يحفظ هذا البيت الخالد: إذا الشعب يوماً أراد الحياة ** فلابد أن يستجيب القدر إنه مطلع أشهر قصيدة معاصرة لشاعر الحب والثورة التونسي أبي القاسم الشابي.. لقد فعل فعله في زيتونة العرب عندما عاد هذه الأيام ليوقظ شعباً حراً عهدناه لعقودطويلة هادئاً مستقراً يُضرب به المثل في الوداعة والتحضر.. ظل متظاهرو تونس يرددون هذا البيت منذ الوهلة الأولى لسقوط البوعزيزي- الشاب العاطل الذي أشعل بانتحاره شرارة انتفاضة شعبية يستحيل نجاحها إلا في تونس.. ظل الجميع يرددون بيت الشابي حتى اللحظات الأخيرة.. إلى أن غادر بن علي، واستجاب القدر!! ماحدث في تونس لا نحسب سببه يعود لسوء توزيع تنمية، سنكون بهذا قد ظلمنا الرجل الذي جعل من تونس قبلة سياح وورشة تنمية مشهود لها رغم أخطاء فادحة كشفتها الأحداث الأخيرة.. بل السبب في الأصل يعود إلى حالة تصدع عربية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.. فعندما تعزل الأنظمة نفسها عن شعوبها، ولا تكون عند مستوى طموحاتهم ولا تصغي لمتطلباتهم جيداً، وتنسى أنها تمثلهم، تصبح الحالة التونسية نهاية حتمية.. هي إذن نتيجة طبيعية لهوة سحيقة حّذر منها الكثيرون، توسعت بين الحاكم والمحكوم عربياً في العقدين الأخيرين بشكل لافت، سواءً عندما بدأت تتزايد الاضطرابات داخلياً وما يحدث في بعض بلداننا من مواجهات عنيفة تنتهي بالدم أو الاعتقال والقمع بدلاً من تلبية المطالب، أو حتى عندما تخرج الجماهير العربية في ذروة غضبها ضد أي عدوان صهيوني وأميركي على بلد عربي بينما حكامنا يكتفون بالشجب والتنديد غير مبالين بهدير جماهير ثائرة تطالبهم بحفظ ماء الوجه وإنقاذ الكرامة العربية من مهانة الإذلال الخارجي المتعمد!! ومثل هذا الخذلان يوسع الهوة بين الحاكم والمحكوم في أي بلد، وينتهي بعاصفة مهما طال الانتظار أو تعاظمت التضحيات.. ربما يبدو ما حدث في تونس حالة استثنائية نادرة ونتيجة خارقة للعادة لأن الانتظار لم يطل، والخسائر أقل من المتوقع، على الأقل بمقاييس عالمنا العربي والإسلامي والأفريقي والمجتمعات النامية وما يحدث فيها من حصاد مُُرّ كلما اشتعلت فتن داخلية وحروب أهلية- سلطوية أو طائفية- تهلك الحرث والنسل!! فأن يتم خلع رئيس دولة في أقل من شهر- وبأقل الخسائر- ذاك أمر خارج نطاق التوقعات والتحليلات وحتى التنبؤات الفلكية في هذا المحيط التقليدي المتشبث بالحكم- عربياً وأفريقياً على حد سواء.. وأغلب الظن أنه لولا الضغط التصاعدي العجيب للجماهير، وكذلك المرونة اللحظية التي تعامل بها بن علي، ربما لساءت العواقب أكثر ولكان الثمن أكبر من حصيلة 60 قتيلاً تقريباً!!.. فبن علي- منذ اندلعت الشرارة العفوية في منطقة بوزيد- سارع في تدارك الوضع بجملة معالجات فورية واتخذ خطوات معيشية وسياسية حسدنا أشقاءنا عليها.. إذ أعلن عن إصلاحات قوية أقال بموجبها نصف الحكومة والمستشارين وأفرج عن كافة المعتقلين، وأعلن عن تخفيض أسعار المواد التموينية وتوظيف 350 ألف عاطل خلال عامين قادمين، ثم إلغاء الرئاسة الأبدية والتعجيل بالانتخابات، ولم يلبث أن اعترف بأنه ضحية تعتيم شامل ممن حوله، ليعلن بسببهم عن تعميم الحرية والشفافية وإلغاء كافة القيود الأمنية، والانفتاح الإعلامي والسياسي الكامل!! بل حين وجد هذه الإصلاحات متأخرة غادر قصره فوراً، فكانت ثمار التغيير أسرع مما تخيلنا، وحصيلة الضحايا أقل بكثير من المتوقع!! ربما كان بإمكان رئيس مثله أن يلجم الوضع قبل تصاعده، سيما وهو معروف بقبضة أمنية فولاذية رغم مساوئها إلا أنها حفظت تونس من أية فوضى لتبدو أفضل حالاً من معظم بلداننا بدليل أنها خالية من أية تهديدات إرهابية- قاعدية وغير قاعدية.. غير أن الأقدار أرادت أن توصل رسالة بالغة الدلالة بأن اتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم ينتهي بزلازل إذا لم يتم ترميمها مبكراً!! ربما أيضاً كانت الإصلاحات الأخيرة كافية لتهدئة العاصفة وانتصاراً مشرفاً للمعارضين لو اكتفوا بها.. لأن غاية طموح الناس هو تأمين لقمة العيش من كابوس الغلاء المتصاعد وتحسين أوضاعهم المعيشية وأن يتنفسوا حرية وديمقراطية حقيقية.. بيد أن الإصلاحات المخضبة بالدم لا تجلب استقراراً، وغالباً ما يكون ثمنها أكبر! مؤكد أن بن علي ليس أسوأ من غيره مطلقاً، فمنذ زمن طويل وتونس في نظرنا بلد مثالي حقق معدلات تنمية عالية.. وموقعها بين ثقافتين- عربية إسلامية وفرانكفونية- أوجد مجتمعاً يُضرب به المثل.. ولا يمكن نكران أنه ساهم في نقلة نوعية خلال 23 عاماً.. لولا أنه وقع ضحية ثلاثة أخطاء تاريخية عجلت برحيله قبل المعمرين:- - الخطأ الأول: أنه عندما اعتلى السلطة نسي أن يخلع بزته العسكرية، أو بالأصح لم ينسَ خلفيته السابقة وقبضته الشديدة، فالرجل جاء من خبرة أمنية طويلة جداً أوصلته للحكم حينما وصل سابقه بورقيبة إلى خريف العمر، ومكنته هذه الحياة الأمنية والاستخبارية الطويلة من صنع انقلاب هادئ لم تسِل فيه قطرة دم واحدة.. ورغم أنه كان أمل التغيير حينها في نظر التوانسة إلا أنه بدأ عهده بتشديد القبضة على خصومه الإسلاميين وغيرهم من الأحزاب العريقة.. وانشغل بإحكام الخناق حولهم بدلاً من الانفتاح عليهم.. متناسياً أنه يحكم بلداً مفتوحاً على ثقافتين- شرقية وغربية- ومجتمعاً يتنسّم حرية وانفتاحاً منذ اندلاع الثورة العروبية وربيع المد التحرري القومي.. وحري بمجتمع كهذا أن ينفتح حاكمه سياسياً على الجميع. - الخطأ الثاني: عندما مضى جهازه باتجاه التعتيم الإعلامي وخاصة في الأحداث الأخيرة، بإغلاق المواقع الالكترونية والمكاتب الصحفية، ومواجهة قلة من المتظاهرين بقبضة حديدية غير محسوبة واعتقالات بالجملة لم يلبث أن دفع ثمنها باهظاً.. فالأزمة تصاعدت بشكل دراماتيكي مذهل لتتحول من مجرد احتجاجات ضد بطالة وتنمية عرجاء في منطقة محصورة إلى مطالبة بتنحيته كلية والتلويح بفساد أسري كبير! - الخطأ الثالث: عندما خرج في يومه الأخير ليعترف أمام العالم بأنه كان مخدوعاً وقع ضحية تقارير صورية واستشارات وتضليلات أبعدته عن الناس وصورت له تونس قطعة من النعيم بينما بعض مناطقه تعاني الفقر والبطالة!!.. مثل هذا الاعتراف يمكن اعتباره من إيجابياته، فمن المستحيل أن يمتلك رئيس دولة عربية شجاعة أدبية كهذه ليعترف بأخطائه أمام الجميع.. لكنه من ناحية أخرى خطأ قاتل.. فمبرر انخداعه بالتضليلات يمكن قبوله من إمبراطور عاش حياته في برجه العاجي بعيداً عن الناس.. لكن أن يصدر عن زعيم إنقاذي صاحب خبرة (استخباراتية) طويلة جداً خرج من ضلع مؤسسة أمنية وقضى معظم حياته مطلعاً على كل الأسرار والخفايا- بحكم عمله- فذاك مالم يستوعبه الناس ولاينطبق عليه سوى قول الشاعر القديم: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ لا توجد حالة عربية يمكن مقارنتها مع الخصوصية التونسية في هذا التغيير الاستثنائي الخارق.. حتى مرونة بن علي في التعامل مع أزمتها غير المتوقعة لينقذها من براثن فتنة أهلية وموضة تشبث سلطوية شائعة وصراعات بقاء.. فقد فضّل الانسحاب سريعاً حتى وإن كانت الحصيلة نحو60 قتيلاً.. لتبدو تونس أفضل حظاً من معظم البلدان العربية والإسلامية والأفريقية المضطربة.. على الأقل أفضل من ساحل العاج بكثير.. بدليل أن الأزمة العاجية بدأت قبل أحداث تونس بشهور قليلة وما تزال قائمة.. ففي حين ترك بن علي قصره في أقل من شهر دون ضغوطات خارجية، مكتفياً بضغوطات داخلية ليخرج بكرامته وبحصاد 60 أو 70 قتيلاً فقط، ما يزال الرئيس العاجي (غباغبو) في قصره منذ شهور مصراً على التشبث القبيح بالسلطة رغم انهزامه في الانتخابات ورغم ضغوطات مجتمع دولي بعثر كرامته وحاصره من كل الجهات، ولم يكتفي بحصاد مئات الأرواح في عهده! جباجبو رضي بالديمقراطية وبانتخابات رئاسية انقلب عليها فور رجوح كفتها لصالح خصمه، وصعب إقناعه بقبول النتيجة ومغادرة قصره، وأوفد العالم كبار الوسطاء الأفارقة والدوليين لزحزحته دون جدوى.. فيما الرئيس التونسي تخلى دون انتخابات أو وسطاء.. وترك الحكم فجأة وهو في ذروة العلاقة الطيبة مع المحيط الدولي، إذ كان الجميع يعتبرون ما يجري في تونس شأناً داخلياً ووقفوا صامتين، لم ينبسوا ببنت شفة إلا بعد أن بدأ بن علي يحزم أمتعته، حينها فتح الفرنسيون والأمريكيون فمهم أخيراً ليعلنوا دعمهم للإرادة الشعبية وأسفهم على سقوط الضحايا.. وهم بهذا الدعم في الوقت الضائع يعتقدون أن خروج بن علي بأقل الخسائر جاء ليخدم مشاريع الغرب الخفية بلا متاعب، وسيستغلونه لا محالة كورقة ضغط على الحكام العرب لمزيد من التنازلات حفاظاً على كراسيهم، ولضمان انخراطهم بهدوء في مشروع شرق أوسطي كبير عاد مؤخراً حسب تصريحات هيلاري ليفرض فوضى خلاقة مشبوهة على العرب ستكون لها نتائج مدمرة نجا التونسيون منها اليوم بتغيير داخلي فرضته الإرادة الشعبية دون تدخلات خارجية متطفلة.. ولا كلفة باهظة!!