في لقاء خاص مع الدكتور طارق عبد الله ثابت الحروي الخبير في شئون وتاريخ الحركات السياسية والباحث في العلاقات الدولية والشئون الاستراتيجية والكاتب والمحلل السياسي يضع أمامنا، خارطة طريق جديدة تكشف عن الجزء الأكبر والمهم من حقيقة تفاصيل المؤامرة الأكثر خطورة على حاضر ومستقبل اليمن دولة وشعبا التي قادتها القوى التقليدية المحافظة واليسارية المتطرفة بالشراكة والتعاون والتنسيق مع الحركة الناصرية بامتياز منقطع النظير. " الحلقة الاخيره " في الوقت الذي تسنى لإدارة الرئيس الراحل ألحمدي تجاوز معظم العقد الرئيسة الشائكة في البيئة الداخلية، فإنها بالمقابل قد نجحت في تجاوز كافة التحديات التي تفرضها البيئتين الإقليمية والدولية آنذاك، من خلال اللعب المحترف على متغيرات الساحة الدولية بنفس القواعد المتعارف عليها، والسعي وراء اغتنام هذه الفرصة التاريخية إلى أقصى حد ممكن، على الرغم من صعوبة التحرك المرن في بيئة مناهضة وطاردة لمثل هكذا توجه مغاير للسياسة الإقليمية والدولية القائمة، في ضوء أهمية بل حيوية وحساسة المصالح الرأسمالية والشيوعية فيها، والسؤال الذي يفرض نفسه علينا د. طارق الحروي عند هذا الحد من التحليل هل يمكن إحاطتنا بشي من التفصيل عن بعض أهم المعطيات الظرفية في البيئة الإقليمية بأبعادها الدولية في هذه الفترة، كي يتسنى لنا الإلمام بإرهاصات البيئة الخارجية ومدى تأثيرها على خط سير التطورات الرئيسة في اليمن ؟ - نعم هذا السؤال مهم جدا بل وضروري، وبهدف اكتمال الصورة بأبعادها المختلفة أود الإشارة في البدء إلى أمور غاية في الأهمية يجب الإحاطة بها قبل الشروع بالإجابة عنه، أولها أن السنوات الأولى من عقد السبعينيات قد شهدت نكوصا حادا في فاعلية سياسية الاستقطاب الثنائية الدولية المتبعة إزاء منطقة غرب المحيط الهندي بأقاليمها الفرعية الثلاثة (الخليج العربي، البحر العربي، البحر الأحمر)، سواء جراء ما أصاب محور القوى الرأسمالية من ضربات موجعة بلغت حد الذروة في الحرب الفيتنامية التي انتهت عام 1974م- وفقا- لما اصطلحت الدوائر الغربية على تسميته ب"عقدة فيتنام" فرضت نفسها بقوة على طريقة تعاطيها مع خط سير الأحداث الرئيسة في المنطقة وبعض دولها الفاعلة أو محور القوى الشيوعية الماركسية التي تعرضت بالمثل لسلسلة ضربات متتالية نالت من نفوذها ضمن نطاق حدود المنطقة وما يجاورها، سيما في ضوء دخول المتغير الصيني بقوة في لعبة الاستقطاب الدولية نيابة عن القوى الرأسمالية في الظاهر، باعتبارها ممثلة للقوى الشيوعية المعتدلة والمنافس الأكثر ضراوة للقوى الشيوعية المتطرفة التي يمثلها المحور السوفيتي، على خلفية التحالف الاستراتيجي الحاصل على محور واشنطن- بكين عام 1971م، بمباركة غربية. - وثانيها إن لدي قناعات مترسخة بهذا الشأن- استنادا- للنتائج التي توصلت إليها أن دخول المتغير الصيني بهذه القوة لم يكن سوى نتاج اتفاق ثنائي أمريكي- سوفيتي تم في أعلي المستويات القيادية وأضيقها لماذا ؟ لأن قواعد هذه اللعبة وضعها الشريكان باتفاق شبه تام، فتقاسما العالم ومناطقه الحيوية واستعدا لخوض تنافس وصراع طويل ُيبقى دول العالم تدور في فلكهما، والتزما كل منهما على أداء ما عليه كي تبقى فصول اللعبة مستعرة، وعند بروز أية متغيرات جديدة لها تأثير على قواعد هذه اللعبة وتداعيات حادة على مصالحهما يستعد الشريكان لخوض جولة تفاوضية غاية في الأهمية والسرية، بهدف التعاون والتنسيق لتجاوزها والعودة إلى أتون اللعبة مرة أخرى، ووفقا- لهذا السياق مازلت أرى أن بروز وتفعيل الدور الصيني حافظ على زخم اللعبة الدولية لفترة من الزمن، كانت كافية لاستعادة الشريكان لنشاطهما المعتاد والعودة لممارسة دورهما المرسوم، في ظل بقاء الشريك الأمريكي أكثر منه السوفيتي بعيدا قليلا عما يدور في هذه المنطقة من العالم بعد انتهاء الحرب الفيتنامية عام 1974م، وسعي السوفيت وراء نقل الجزء الأكبر والأهم من نشاطه إلى مناطق جديدة، بانتظار اللحظة المناسبة لكليهما للعودة إلى المنطقة، سيما في حال ما أدركنا أن كل ما شهدته دول المنطقة من تطورات ومنجزات ايجابية يعتد بها في مراعاة المصلحة الوطنية خارج ما يسمي بسياسة الاستقطاب الثنائية الدائرة رحاها ضمن قواعد اللعبة الدولية في مرحلة الحرب الباردة طوال الفترة المحصورة (1970-1976م) على وجه التقريب والتي كان للصين دورها المحوري البارز فيها، قد تم إزاحتها نهائيا بضربات متوالية منظمة وسريعة وكأن شيء لم يكن بمجرد عودة كلا من أمريكا والسوفيت إلى الساحة، وهذا ما يجب على الجميع الانتباه إليه كثيرا. - أما ثالثها وأهمها – بحسب وجهة نظري- فهو أن هذا الأمر برمته قد أفسح المجال واسعا أمام نشؤ وتطور تيار ثالث قوى له شأنه يقوده العراق الجديد، باعتباره أهم القوى الإقليمية المعتدلة ومحور التيار التحديثي التحرري في المنطقة قاطبة الذي شق طريقه بقوة في منطقة تهيمن عليها القوى التقليدية المحافظة المتحالفة مع القوى الرأسمالية العالمية والقوى اليسارية المتطرفة المتحالفة مع القوى الشيوعية العالمية، سيما في ضوء ما أبداه من قدرة منقطعة النظير في اللعب على صيغ التوازنات الدولية القائمة بالاستناد على أولويات مصالحه الحيوية العليا قبل وبعد كل شيء، بصورة استطاع من خلالها فرض أجندته السياسية المناوئة للأجندة الدولية أو اختراقها (عموديا/أفقيا)، على خلفية ما حققه من نجاحات نسبية في اختراق صفوف القوى الدولية سواء على الجبهة الشيوعية بتوقيع اتفاقية الصداقة والتعاون مع موسكو عام 1972م، وما ترتب عليها من إمكانية تعظيم مكاسبه الإستراتيجية بتأميم ثرواته وموارده النفطية عام 1972م والمشاركة المحورية في تفعيل دوره الإقليمي على عدة جبهات رئيسية ابتداء بجبهة الخليج العربي من خلال دوره المحوري في تقديم شتى أنواع الدعم المادي والمعنوي للثورة المشتعلة نيرانها في إقليم ظفار العماني من خلال محور موسكو- عدن، وصولا إلى ارتفاع مستوى الزخم الثوري بتبني إستراتيجية جديدة لتحرير الخليج كله من الهيمنة الغربية، ومرورا بجبهة القرن الأفريقي في ضوء ما حققه من نفوذ مهم في أجزاء واسعة من منطقة القرن الأفريقي ولعبه من أدوار في دعم المطالب القومية للصومال وجيبوتي واريتريا، وما أتاحه ذلك من فرص متعاظمة للعراق للتواجد بالقرب من مضيق باب المندب وتهديد خطوط الملاحة الدولية، وانتهاء بجبهة البحر الأحمر في ضوء الدور المحوري الذي لعبه، ابتداء في إرهاصات الحرب الدائرة على الجبهة (المصرية/ السورية)- الإسرائيلية عام 1973م، ومرورا بما كان له من تأثير في تفعيل دور محور عدن- القاهرة في إغلاق مضيق باب المندب أمام السفن الإسرائيلية وسفن الدول المشاركة في الحرب تحت أية مسمى كان، وانتهاء بدوره المحوري في تشكيل جبهة عربية عريضة مناهضة لعملية التطبيع مع (إسرائيل) عام 1979م، شملت إلى جانب دول المواجهة الرئيسة معظم دول البحر الأحمر واليمن الشمالي خاصة. - أو على الجبهة الرأسمالية في ضوء ما حققه من تفكيك جزئي لمواقف وعرى التحالف الغربي القائم ضده، من خلال انفتاحه الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي أكثر منه السياسي مع بعض دوله بحثا عن تغطية الجوانب التكنولوجية والعلمية التي هو بأمس الحاجة إليها وهو يحث الخطى نحو بناء مرتكزات مشروعه القومي النهضوى ويندر وجودها لدي الحليف السوفيتي، في اتجاه تأمين وتقوية أركان جبهته الداخلية، ويستعد في نفس الوقت لخوض مواجهات عنيفة ضد سياسيات المحاور الأمريكية والسوفيتية وحلفائهما في آن واحد. هل يمكن الغوص كثيرا بشيء من التفصيل في تلك الجزئية وثيقة الصلة بالتطورات الإقليمية الرئيسة المؤثرة على الملف اليمني ؟ - نعم نجد ضمن هذا السياق- في المحصلة النهائية- إن تدهور النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة الذي فرضته المعطيات الظرفية للبيئة الدولية والإقليمية- كما أسلفنا ذكره آنفا- قد جاء بالفعل لصالح بروز وتفعيل الدور المحوري للحليف الصيني كقوة معتدلة ليس لها أية أطماع في المنطقة على حساب النفوذ السوفيتي وحلفائه الذي تقلص نفوذه سريعا فيها طوال الفترة (1973- 1977م)، بصورة هددت بالنيل من أهم نقاط ارتكازه الرئيسة وأنذرت بإخراجه نهائيا من المعادلة الإقليمية، وهو الأمر الذي برز واضحا ابتداء في سقوط النظام الملكي في أثيوبيا عام 1974م بعد تخلي الولاياتالمتحدة عنه وبروز هيمنة نسبية للجناح المعتدل الموالي للصين في الفترة (1974-1976م)، ومرورا في الانقلاب الأبيض الحاصل سواء في اليمن الشمالي ضد القوي التقليدية المحافظة والمتطرفة الذي قاده المقدم إبراهيم ألحمدي في الفترة (1974-1977م)، أو في اليمن الجنوبي ضد الجناح المتطرف في الحزب الاشتراكي الحاكم الذي قاده سالم ربيع على في الفترة (1969- 1978م) لصالح النفوذ الصيني الذي تغلغل بسرعة فيهما، وانتهاء بالنجاح الساحق الذي حققته القوى المنتمية للمحور الأمريكي- الغربي ك(الولاياتالمتحدة، بريطانيا، إيران، السعودية، إسرائيل،..) في إخماد حرارة الثورة المشتعلة نيرانها في إقليم ظفار العماني عام 1975م بعد تخلي كلا من العراق ومحور موسكو- عدن عنها، وصولا إلى إخماد الثورات المتأججة نيرانها في منطقة القرن الأفريقي وحرف مسار حركات التحرر الوطني فيها إثر تخلي العراق ومحور موسكو- عدن عنها، ابتداء من إقليم الصومال الفرنسي "جيبوتي" بقبول المحتل الفرنسي منحها الاستقلال عام 1975م- وفقا- لمعاهدة جديدة تقنن الوجود العسكري الفرنسي فيها وتحافظ على كافة المصالح الحيوية لها ولحلفائها، ومرورا بإحداث انشقاقات حادة (عمودية/أفقية) في جدار المقاومة المسلحة التي تقودها جبهة التحرير الاريترية الأم؛ من خلال بروز جبهة التحرير الشعبية المنشقة عنها بقيادة أسياسي أفروقي عام 1975م بدعم إسرائيلي- غربي، وانتهاء بتشويه ومن ثم حرف مسار الثورة في الصومال التي أعدت العدة لإنهاكها ومن ثم إخمادها من خلال التعاون والتنسيق القائم بين الأمريكان والسوفيت على أعلى المستويات القيادية، - في حين بلغ هذا الأمر حد الذروة – بحسب وجهة نظري- في الدور المحوري الذي لعبه العملاقين الدوليين في إخماد حمى التطلعات القومية لدي مصر ومن ثم دفعها تارة واحدة نحو التطبيع مع إسرائيل، في محاولة منهما احتواء ومن ثم إسقاط كل دول المنطقة نحوها دفعة واحدة- مستفيدة في ذلك- من حالة الاختلال الحاد المتوقعة للمعادلة الإقليمية في أعقاب خروج مصر المفاجئ من صف الدول المناوئة لها، إلا أن دخول المتغير العراقي بقوة حال دون أية تقدم يذكر لها- في هذا الشأن- في ضوء ما مثله من ثقل إستراتيجي نوعي ليس في الحيلولة دون تساقط دول المواجهة مع إسرائيل كورق الدومينو مثلما كان مخطط لها فحسب، بل- أيضا- في تعديل كفة الميزان المختلة لصالح القوى المناوئة لها- هذا إن لم نقل ترجيحها لصالحها. - إلا أن العام1977م قد مثل- بحسب وجهة نظري- نقطة التحول الجذري في حالة النكوص واللا مبالاة المفتعلة التي أصبحت عليها كلا من السياستين الأمريكية والسوفيتية، في إعلان دولي رسمي عن عودة سريعة ومفاجئة للمنطقة إلى أحضان التنافس الدولي وأجواء حربا باردة جديدة- كما- يحلو للكثيرين ترديدها طوال الوقت، لكن- وفقا- لمعايير جديدة من الشراكة والتعاون والتنسيق عالي المستوى، فبالرغم من أن السوفيت هو من بدئها بشكل مباشر، إلا أن الأمريكان كانوا حاضرين بشكل غير مباشر، في ضوء ما تشير إليه معظم الدلائل التاريخية من دلالات ومعاني وإشارات بالغة الأهمية بهذا الشأن لماذا ؟ جراء ما شهدته معظم دول المنطقة من جنوح حاد ومن ثم من ضربات متتالية منظمة وسريعة، أدت إلى تساقط منظم وسريع للأجنحة المعتدلة الموالية أو القريبة للحليف الصيني كأحجار الدومينو وورق الخريف في سيناريو معد مسبقا لمثل هذا الغرض على المستويات القيادية في العالم وفي هذا التوقيت تحديدا لصالح الأجنحة المتطرفة الموالية للخصم السوفيتي، ممهدة الطريق واسعا لعودة الولاياتالمتحدة بقوة إلى المنطقة ضمن أطر إستراتيجية معدة سلفا أصطلح على تسميتها بمبدأ كارتر (1977- 1978م) ومبدأ ريجان عام 1980م، كيف حصل ذلك ؟ - حصل ذلك ابتداء من حسم الصراع الداخلي على كرسي السلطة في أثيوبيا المستعرة فصوله منذ العام 1974م لصالح الجناح الموالي السوفيت عام (1976-1977م)، وحصول السوفيت على مواطئ قدم مهمة فيها بالتنسيق والشراكة مع الأمريكان، في اتجاه التمهيد لسحق التطلعات القومية للصومال، وهو ما حدث بالفعل عندما تخلى السوفيت كليا عن الحليف الصومالي ومضحيا بكل مصالحه الحيوية معه، راميا بكل ثقله الاستراتيجي مع الحليف الأثيوبي الجديد، من خلال الهزيمة العسكرية الساحقة التي منيت بها الصومال في حرب أوجا دين الثانية عام (1977-1978م) والثالثة عام1981م، ومرورا باستعادة السوفيت لنفوذه الاستراتيجي في اليمن الجنوبي عام 1978م في ضوء ما حققه من نجاحات نسبية في إزاحة الجناح المعتدل من على سدة السلطة وصعود الجناح الموالي له بقيادة الرئيس عبد الفتاح إسماعيل كمرحلة أولية في أعقاب إعدام الرئيس الراحل سالم ربيع المدان بعملية الاغتيال المدبرة لأخيه الراحل الرئيس أحمد الغشمي، ثم انتقالها إلى الرئيس على ناصر محمد عام 1980م كمرحلة ثانية- وفقا- للسيناريو المعد لذلك، وصولا إلى نجاحها الساحق في إشعال شرارة الحرب الحدودية اليمنية- اليمنية في يناير 1979م، التي استطاعت من خلالها تصفية معظم قيادات وعناصر الأجنحة المعتدلة في كلا الشطرين بضربة واحدة، وانتهاء بالدور الذي لعبه السوفيت في إزاحة كلا من الرئيس الراحل إبراهيم ألحمدي عام 1977م وأحمد الغشمي عام 1978م، والمساهمة في انتقال مقاليد السلطة إلى الرئيس الصالح كجسر عبور مؤقت ليس إلا، فرضته المعطيات الظرفية آنذاك، تمهيدا لانتقالها المباشر والسريع إلى ممثل القوى التقليدية المحافظة والمتطرفة الأبرز "على محسن الأحمر" ، واستنادا لهذا السياق اعتقد أن الصورة بخطوطها الرئيسة والعامة قد أصبحت واضحة تماما أمامنا، وهو ما سنحاول التطرق إليه بشيء من التفصيل لاحقا. عودة إلى بدء وحرصا على موضوع التسلسل التاريخي لمجريات الأحداث الرئيسة- كما- بأدناها ومن ثم انسيابية هذا اللقاء الخاص معكم، كيف يمكن لكم د.طارق الحروي أن تفسروا لنا أدراك ومن ثم تدارك ومن ثم استعداد القوى الإقليمية التقليدية المحافظة واليسارية المتطرفة بامتداداتها المحلية والدولية هذا التطور الجذري والمفاجئ في هذه المنطقة الحيوية من العالم وفي اليمن بشطريه خاصة ؟ - عند هذا الحد من التحليل نستطيع القول أن القوى الإقليمية التقليدية المحافظة والمتطرفة واليسارية المتطرفة بامتداداتها المحلية والدولية ك(السعودية، مصر، اليمن الجنوبي، إسرائيل، الولاياتالمتحدة، الاتحاد السوفيتي، بريطانيا،....) قد أدركت أن ناقوس الخطر المحدق بمصالحها الحيوية في عموم المنطقة ومنها اليمن قد دق بقوة منذرا بضرورة العمل الجاد على إيقاف المسيرة التنموية التي يقودها الرئيس الراحل ألحمدي وخيرة معاونيه بإسناد كامل من القوى التحديثية والتحررية الجديدة على الفور، الذي استعدت له- كليا- بمواردها وإمكاناتها المعنوية والمادية كيف ؟ وهو الأمر الذي يمكن إعادة بلورة بعض أهم معالمه الرئيسة في اتجاهين رئيسين متلازمين. - الاتجاه الأول ذهب إلى التركيز كثيرا على تقنية تصفية قيادات ورموز المشروع الوطني النهضوي ألتغييري التي بدأت تتلمس طريقها بوضوح منقطع النظير تحت قيادة ورعاية الرئيس الراحل ألحمدي وبعض رفاقه واضعة يدها على أهم خطوطه الرئيسة المؤدية نحو الغاية المنشودة بمراعاة عامل الزمن والسرعة والكلفة في تراجيديا مذهلة؛ من خلال العمل الجاد والمتواصل بصمت وإتقان على مرحلتين رئيستين متعاقبتين، تركز الأولي على تقنية التصفيات الجسدية الفردية غير المعلنة لأهم عناصر القيادة السياسية والعسكرية والأمنية العليا صاحبة التأثير داخل الدولة بضربة واحدة وفي توقيت واحد، وهو ما حدث بالفعل عندما نجحت نجاحا منقطع النظير قي التخلص من الرئيس الراحل ألحمدي وبعض أهم رفاقه دفعة واحدة في ظروف غامضة وشائكة، وتعتيم داخلي وخارجي يثير الكثير من علامات الاستفهام والغموض، لدرجة أن الشعب اليمني وقواه الوطنية والحركة الناصرية خاصة لم تفق سريعا من هول الصدمة وقوتها، سيما أن الرئيس الراحل أحمد الغشمي بدأ بممارسة مهامه الوطنية اليومية سريعا وبإسناد كامل من رفاق سلفه الراحل والقوى الوطنية، بصورة لم تتيح مجالا واسعا لأية ردود أفعال مؤثرة- في هذا الشأن. - والمرحلة الثانية تقوم على تقنية التصفية الجسدية الجماعية المعلنة للقيادة التاريخية للحركة الناصرية ولمن تبقى من العناصر القيادية الرسمية (العليا، الوسطى،...) المؤثرة والمهمة في السلك العسكري والأمني ومن ثم السياسي والحزبي- من جانب- وتقنية عمليات الإحلال الجماعية الواسعة، باعتبارها الوسيلة الأمثل لإزاحتها عن مواقعها الرسمية المؤثرة باستبدالها بالعناصر الموالية؛ من خلال سلسلة واسعة من (التنقلات والاستقالات والتنازلات، التهميش، المطاردات، الإلغاء، الاعتقالات،...)- من جانب أخر- سواء في ضوء ما تمثله من نقاط ارتكاز رئيسة لضمان بقاء واستمرار المشروع الوطني للدولة المدنية الحديثة- وفقا- لمعايير المصلحة الوطنية العليا كما مخطط له، بالرغم مما مثلته عملية التخلص من الرئيس الراحل إبراهيم ألحمدي ورفاقه من كارثة وطنية حقيقة في هذا الأمر، على خلفية ما تواجهه القوى الانقلابية من صعوبة حقيقية من الاقتراب منها وإزاحتها ومن ثم تصفيتها من مواقعها المؤثرة لأسباب غير منطقية، في ضوء ما تمتلكه من إمكانات مادية وسياسية وشعبية، أو في ضوء ما تشكله هذه الحلقة من أهمية قصوى لاستكمال حلقات المخطط والبدء بقطف ثماره الرئيسة من عدمه، سيما أن ملف اغتيال الرئيس الراحل ألحمدي ورفاقه ما زال مفتوحا على مصراعيه، في ضوء بروز تيار داخلي قوي يطالب بضرورة الكشف عن المخطط الانقلابي كاملا ومعاقبة كل المتورطين والمتواطئين فيه، وهو ما حدث بالفعل في أعقاب الانقلاب الأسود الذي قادته الحركة الناصرية بالتعاون والتنسيق والشراكة الكاملة مع القوى التقليدية الظلامية بشقها المحافظ واليساري بتاريخ 15/10/1978م، تحت مسمى حركة 15 أكتوبر، وما تلاها من تطورات رئيسة- في هذا الشأن. - والاتجاه الثاني يركز على تعطيل وتجميد ومن ثم حرف المسيرة التنموية؛ من خلال إيقاف ومن ثم تأخير استكمال مشروع بناء مرتكزات الدولة المدنية الحديثة وإنسانها الجديد، وصولا إلى الحرص التام على ولادته مشوها وممسوخا، في ضوء استمرار تنامي حالات القصور الحادة الحاصلة في المسيرة التنموية؛ جراء ضعف إمكانية الانتقال لمرحلة دولة النظام والقانون المنشودة، باعتبارها المدخل الأساسي بل والمحوري لإمكانية الوصول إلى مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة المنشودة؛ لاعتبارات رئيسة عديدة تقع خارج نطاق حدود سيطرة الرئيس الصالح وفريق إدارته، وهذا ما سوف نقوم بتوضيحه تباعا، أسست لها منظومة التغييرات الجذرية الحاصلة في واقع المعادلة الداخلية بصيغها التوازنية الجديدة المناهضة والطاردة لأية توجهات حقيقية بهذا الشأن، وفرضتها المعطيات الظرفية للبيئة الخارجية والمحلية التي تشكلت معالمها الرئيسة منذ اغتيال الرئيس ألحمدي ورفاقه 1977م وصولا إلى الإرهاصات والتداعيات الخطيرة التي خلفها الانقلاب الأسود عام 1978م على حاضر ومستقبل اليمن دولة وشعبا. هل بالإمكان التركيز على هذه الجزئية أكثر، كي تتضح لنا طبيعة العلاقة التي تربط بين إعلان قيام المؤتمر الشعبي العام ككيان سياسي جديد يهيمن على الساحة السياسية قاطبة، وبين ماهية الجهة التي حالت دون قيامه في عهد الرئيس ألحمدي وطبيعة أهدافها وحجم مصالحها الحقيقة التي قبلت أن تقاضي بها صيرورة ومستقبل كيانها التنظيمي وحياة عناصرها، وصولا إلى اضطرارها إلى الخوض في سيناريو تصفية القيادة التاريخية للرئيس ألحمدي ورفاقه المعد سلفا على أعلى المستويات الرسمية في العالم ضمن إستراتيجية إقليمية معدة لهذا الغرض، والحيلولة دون حدوث أية خطوة جدية لقيام هذا الكيان إلا بعد الاستقرار النسبي للأوضاع في عهد الرئيس الصالح عام 1980م وتغير جذري في موازين المعادلة الداخلية لصالح القوى التقليدية المحافظة ؟ - أرد بالقول أن تلك الخطوة الجريئة والحاسمة ممثلة بالتمهيد للإعلان عن قيام "المؤتمر الشعبي العام" التي استعدت القيادة التاريخية للرئيس ألحمدي ووفرت لها مستلزمات النجاح المتاحة في البيئة المحيطة على سبيل المثال لا الحصر كانت القشة التي قصمت أو ستقصم ظهر البعير في هذا الأمر كما يقول المثل الدارج لماذا ؟ لان نشو مثل هذا الكيان السياسي على أنقاض عشرات الحركات والتيارات والقوى الناشطة في الساحة اليمنية، كان يعنى في حال نجاحه إعادة صياغة ومن ثم بلورة صيغ المعادلة الداخلية بتوازناتها القائمة وصولا إلى إعادة توزيع مصادر القوة والثروة فيما بينها- وفقا- لذلك والتي كان مقدرا لها في حال نجاحها انتشال اليمن دولة وشعبا من مستنقع الاحتراب والصراع والمصالح الضيقة والارتهان للخارج والتأمر عليها تحت الكثير من المسميات، ومن ثم إخماد حمى الصراع الصفري المحتدمة فصوله بين القوى المتنافسة بكل أطيافها وتياراتها ومشاربها، سواء أكان ذلك داخل صفوف القوى التحديثية والتحررية نفسها والحركة الناصرية- بوجه خاص- أو فيما بينها وبين بعضها البعض، أم فيما بينها وبين باقي القوى الأخرى، وصولا إلى إلغاء الجزء الأكبر والمهم من البون الشاسع من حالات الافتراق والتناقض والتباين في الروي والمواقف ومن ثم التوجهات والمصالح؛ بصورة يتفرغ فيها الجميع للعمل معا في الوصول باليمن دولة وشعبا إلى غايتها المنشودة- وفقا- للثوابت الوطنية التي يتفق عليها الجميع دون استثناء، وبالتالي ما يعنيه ذلك من تقليص في طبيعة ومستوى ومن ثم حجم الفرص المتاحة أمام القوى المحلية والإقليمية والدولية المتآمرة على بلادنا إلى أقصى حد ممكن. - ومن هنا سوف تتضح لنا ماهية تلك العناصر المنضوية داخل الحركة الناصرية ومن ثم طبيعة أهدافها ومصالحها التي وقفت بالضد دون تمكين القيادة التاريخية للرئيس ألحمدي والتيار الموالي لها داخل الحركة الناصرية والدولة من استكمال هذا الأمر؛ من خلال السعي الحثيث وراء وضع كافة العراقيل أمامها بشتى الطرق طوال فترة الإعداد والتحضير التي طالت وحالت دون سرعة وانسيابية التنفيذ، وصولا إلى المشاركة الفاعلة في الإعداد والتحضير ومن ثم التمهيد والتنفيذ لسيناريو التصفية الجسدية الذي تشاركت في وضعه كل القوى الدولية والإقليمية صاحبة المصلحة الحيوية في المنطقة؛ سواء للرئيس الراحل ألحمدي ورفاقه وصولا إلى الرئيس الراحل أحمد الغشمي أو للرئيس الصالح الذي ظل ملفه شبه مفتوح منذ اندلاع إرهاصات محاولة الانقلاب الأسود عام1978م وصولا إلى ذلك الدور المحوري الذي لعبته في استكمال أهم حلقات هذا السيناريو قاطبة الرامية إلى تصفية أكبر عدد ممكن من القيادات والعناصر الفاعلة والمؤثرة داخل الحركة الناصرية والدولة معا وخارجها؛ سواء من خلال ما أسهمت به من أدوار في تسهيل اختراق صفوف الحركة الناصرية (عموديا/أفقيا) ضاربة عرض الحائط بكل شيء أمام تحقيق أهدافها المرسومة، في اتجاهين رئيسين على غاية كبيرة من الأهمية- على أقل تقدير- الأول ترمي من ورائه إلى فتحت الباب واسعا على مصراعيه أمام استقطاب ومن ثم دخول كبار القادة العسكريين والقبليين والدينيين المنتمين للقوى التقليدية المعادية للحزب وفكره القومي التحديثي التحرري في فترة وجيزة جدا وصولا إلى تبؤ مختلف المستويات التنظيمية القيادية، بصورة تم فيها خرق كل قواعد الأمن والأمان التي من خلالها تضمن الحركات الثورية مصير كيانها التنظيمي وعناصرها في آن واحد، بصورة أفضت إلى انكشاف حاد للتنظيم وخلاياه الأمنية (راسيا/أفقيا)، ومن ثم تفكيكها وإضعافها من الداخل، ودفعها قدما نحو حتفها المؤكد المرسوم، نظرا لما أفرزه هذا الأمر من تناقض وتباين حاد بين قيادات وعناصر الحركة، قطفت أهم ثماره في المرحلة التي تلت الانقلاب الأسود في سهولة تلفيق التهم وضعف ردود الأفعال، بصورة تم التخلص منها وإزاحتها خارج السلطة في فترة وجيزة، وترمي في الاتجاه الثاني إلى تجاوز والالتفاف؛ من خلال عملية جراحية موضعية دقيقة وجريئة ومن ثم حرف أو إيقاف فوري لأية خطوة حقيقية تهدف إلى مواصلة ما أسس له الرئيس ألحمدي في اتجاه الإعلان عن ظهور الكيان السياسي الجديد المزمع إنشاؤه" المؤتمر الشعبي العام" سيما أن هذا الأمر كان في أخر مراحله الأساسية بعد استكمال كافة حلقاته الرئيسة، في ضوء الجهود المضنية التي أولتها إدارة الرئيس ألحمدي في سباقها مع الزمن؛ وهو الأمر الذي اتضحت أبرز معالمه الرئيسة في محاولتها الاستعاضة عنها بتلك الخطوة الأكثر خطورة على مستقبل الحركة واليمن التي جعلت من الحركة الناصرية بديلا لها، عندما بدأت باستيعاب مئات بل وألوف القيادات والعناصر المؤثرة والنافذة المهمة في أجهزة الدولة ضمن إطار الحركة الناصرية مخترقة بذلك كل الضوابط التنظيمية والأمنية...، تحت مبرر أنها الخطوة الرئيسة المتاحة لإبقاء الحركة الناصرية فكرا ومشروعا وأفرادا ومصالح محور الارتكاز الأساسي للدولة التي غاب عنها الرئيس الراحل ألحمدي وخيرة رفاقه بلا منازع في المرحلة القادمة، وفي نفس الوقت أفضت إلى إيقاف أية خطوة حقيقية وسريعة في اتجاه تسليم مقاليد السلطة إلى أيادي أبنائها ممن وقع عليهم الاختيار لتمثيل الشعب بكل قواه وتياراته وشرائحه في الجمعية العامة المرتقبة للمؤتمر الشعبي العام والتي كانت البلاد بحاجة ماسة لها من أية وقت مضى، بحيث لم يتسنى فتح هذا الملف إلا في العام 1980م على ما أظن تحت رعاية وإشراف الرئيس الصالح وفريق إدارته بالإعلان الرسمي عن تأسيس المؤتمر الشعبي العام.