محمد مصطفى منذ ستة أيام، خرجت من منزلي في مدينة ديربورن دكس بولاية ميشيغان، متوجهًا لزيارة صديق يسكن على بُعد ست دقائق فقط. كالعادة، استعنت بال GPS، فوصلت بدقة دون أي مشكلة تُذكر. لكن أثناء العودة، وضعت عنوان منزلي مرة أخرى. وما إن بدأت القيادة حتى وجدت نفسي على طرق سريعة تربط بين الولايات، وتجاوزتُ منطقة الداون تاون دون أن أدرك، حتى وصلت إلى مسافة دقيقتين فقط من الحدود الكندية! بقيت أتنقّل بين الكباري والمخارج، متخبطًا في المسارات، وال GPS يعيدني إلى نفس الطريق بلا فائدة. ثلاث ساعات ونصف ضياع، لمسافة لا تتجاوز دقائق معدودة! أعدت إدخال العنوان، ظنًا أنني أخطأت، لكن لا جديد. طلبت من زوجتي إرسال موقعي، فبعثته بخريطة على الهاتف. تبعتها، لكنها أخذتني إلى نفس الطرق الطويلة. وقفت جانبًا، أنهكني التعب والقلق، بحثت حولي عن أي ملامح أو وجوه مألوفة. لمحْتُ سوبرماركت صغيرًا، فدخلت إليه على أمل أن أجد من يفهمني. في الداخل، كانت هناك سيدة أمام الكاشير، يبدو عليها أنها من الشرق الأوسط. رجل يقف خلفها يحمل كيسًا فيه حبة طماطم، وحبة بصل، وحبة بطاطا. انتظرت حتى أنهت حسابها، ثم ألقيت التحية بالعربية، فأجابتني بلهجة جزائرية دافئة. شرحت لها موقفي، فرحبت بي وقالت إنها ستنتظر زوجها ليستلم منها المحل، ثم تخرج بسيارتها وتدلّني على الطريق. شكرتها بلطف واعتذرت، وطلبت منها فقط إرسال موقعي لزوجتي. وبالفعل، لم تمضِ دقائق حتى وصلت زوجتي وابنتي الصغيرة "دانيا" إلى مكاني بسيارتهما. ركبت سيارتي، وسرت خلفهما بهدوء حتى عدنا إلى منزلنا بسلام، والحمد لله على نعمة الوصول. لكن الموقف لم ينتهِ هنا… دار بيني وبين السيدة حديث عن العمل، فقالت إنها تفكر في بيع السوبرماركت رغم أنه في موقع ممتاز. سألتها بدهشة عن السبب، فقالت: "معظم الزبائن هنا من أصول غربية. يشترون بالحبة… لا بالكميات. لا يوجد استهلاك مثل الجاليات العربية." توقفت لحظة وتأملت ما قالته. تذكرت مشهد الكيس البسيط في يد الرجل، فيه ثلاث حبات فقط. وتذكرت ما نفعله نحن — نشتري بالكيلو، ونطبخ بالكميات، ونرمي بالبقايا. في الأفراح، في العزائم، في التجمعات، يرمى من نعم الله ما يكفي لإطعام عشرات. كم مرة رميت فيها طعامًا في الزبالة؟ كم مرة اشتريت أكثر مما أحتاج؟ كم مرة قلت "خلينا نزيد… يمكن ما يكفي"؟ نسينا أن النعمة إن لم تُشكر زالت، وإن لم تُصن تلفت. في تلك اللحظات، علّمتني تلك السيدة درسًا، وعلّمتني ابنتي الصغيرة "دانيا" درسًا أعظم: استخدمت الخرائط، وفهمت الاتجاهات، وأرشدت والدها التائه، بلغة غير لغته، وثقة تفوق سنّها. الدرس الأهم: في قلب الغربة، وبين طرق لا تنتهي، تعلمت ما لم أتعلمه في عشرات السنوات: أن النعمة لا تُقاس بوفرتها بل بوعي من يملكها. أن الاعتماد على النفس، والهدوء وقت الأزمات، كنز لا يُقدّر بثمن. أن التبذير عادة نخسر بها البركة، ونعتادها حتى تصبح جزءًا من ثقافتنا. رسالتي لكل عربي في المهجر: تعلّم من الغرب بساطتهم. اشترِ بقدر حاجتك، ولا تُهدر ما رزقك الله به. ربما تجد البركة في حبة طماطم واحدة... كما وجدتها أنا في كرم سيدة جزائرية، وذكاء طفلة يمنية، وتعاون زوجة محبة. انشر القصة، فقد توقظ ضميرًا، وتغيّر سلوكًا... والنية لله.