فيلم رسائل البحر للفنان و المخرج الرائع داود عبد السيد من أرواع الافلام العربية الاخيرة و الذي للأسف وجد سوء فهم لدى الكثير من النقاد و اعتبره البعض أقل جودة من فيلم "الكت كات" أو فيلم "ارض الخوف" و مثال لذلك ما ذكره الناقد اسامة الشاذلي في مقال له بعنوان "رسائل البحر التي لم تصل" و اعتبر الفيلم عبارة عن نقطة ندى من مخرج كنا ننتظر منه غيث بعد غياب طويل، لعل الذين يبحثون عن حكاية درامية و خط سردي متسلسل لم يعجبهم الأسلوب و البعض يعتبر أن المنهج التشكيلي الصوري الفريد كان له أثر سلبي و مزعج حسب بعض الأطروحات. في فيلم "رسائل البحر" لغة سينمائية ساحرة مفعمة بالتشكيل و الحلم و عودة إلى جوهر السينما باعتبارها صورة متحركة تثير الخيال و الدهشة و ليست حكاية مسلية أو احداث اكشن، مشاهد اغراء و يمكننا أن نتوقف مع العديد من النقاط المهمة لمحاولة تلمس سحر هذه اللغة و جاذبيتها. اعتمد المخرج تقنية الإكثار من اللقطات الطويلة ليس لغرض عرض حدث ، بل نزعة للفن التشكيلي و الفوتغرافي، كانت الصور و اللوحات مدهشة اشتغل عليها بشكل جمالي و أهتم بأدق التفاصيل و خاصة الإضاءة و الألوان، كانت اغلب اللقطات الطويلة دلالات ذات عمق إنساني حتى في اللحظات التي لا نرى فيها أي شخصية تتحرك داخل هذه اللقطات فهي قراءة للصراع الداخلي في عمق الشخصيات، و هي تعكس مدى الاضطراب و القلق النفسي و الروحي، هي صور حالمة و هي أيضاً قراءة للواقع بصورة ذكية و غير مباشرة. الاشتغال على الفراغ كان مدهش، ففي الكثير من اللقطات تبدأ اللقطة بمكان فارغ خالي من العنصر البشري ثم نرى الشخصيات تدخل الكادر، ثم تغادره لنعود إلى مكان فارغ ، الاشتغال على الفراغ بهذا الأسلوب الجمالي الفائق قليل و نادر في الافلام العربية، لو تأملنا بشكل دقيق سندرك أن روح الشخصية تظل في المكان الفارغ.. الاشتغال على ما هو خارج الكادر كان محفز و أسلوب شاعري ممتع، فمثلا يحي يعشق تلك النافذة التي يصدر منها عزف موسيقي و لحن شجي، تسلبه هذه الموسيقى عقله، يظل مرتبط بالنافذة و ماوراء النافذة، لم يكشف المخرج لنا أو للشخصية من الوهلة الاولى شخصية نورا التي تكون تعزف و تعاني من الوحدة و الضياع، حتى عندما يرتبط يحي بنورا بعلاقة حميمية و عاطفية، يظل يُحلق في النافذة، يتسمر أمامها ليسمع ذلك العزف، يتالم لغيابه و انقطاعه في بعض الاحيان. العناصر الطبيعية مثل البحر و المطر كانت حاضرة بقوة و جزء هام و جوهري و ذات دلالات محتوى انساني خلقت نوع من الأجواء الأسطورية و الميتافيزيقية، فالبحر بصخبه أحياناً و هدوئه كان ملجاء الشخصيات و ملاذها، عندما تهرب من الواقع و قسوته أو حتى تهرب من قلقها و هواجسها، هو مساحة للحلم و أشبه بشاشة عرض، فمثلا عندما تكون نورا مع يحي بالقارب و نرى أن القارب يهتز في موقف رومانسي مدهش، تفصح نورا عن شعورها باللذة و تقرر النزول للبحر فتتجرد من ملابسها، ترمي بنفسها في البحر ثم يتبعها يحي فيصبح البحر مساحة للذة، في بعض الأحيان نرى أن البحر يصد الشخصيات و يحصرهم، في بعض الاحيان نشعر أنه غاضب منهم! مثال لذلك عندما يفشل يحي في الاصطياد بسبب غضب البحر، يظل يعاني من الجوع إلى أن يسقط مغشياً عليه من التعب و الإرهاق، هنا للبحر دلالات قوية و هو أشبه بالإله الذي يمنع و يمنح، يعطي و يسلب و يضحك و يغضب فهو قوي، قاهر، و هو أيضاً كريم و متعاطف. و كذا كان للمطر حضور شاعري موحي فهو أسلوب فني لأحداث بعض التغييرات اللونية و التلاعب بالإضاءة ليجعل الصورة اكثر قتامة في بعض لأحيان و يعمق الشعور بالوحدة و القلق ، رغم ان حضوره الصوتي كان خافتا في الكثير من الاحيان الا أن هذا الاجراء ربما كان ذو استخدام غير مألوف و مغاير للأسلوب الكلاسيكي الذي يخلقه صوت الرعد المصاحب للمطر أو صوت هطول المطر ومع ذلك يمكننا أيضاً أن نشعر بموسيقية المطر و لكن الاكثر من ذلك أن المطر كان يضفي أجواء سحرية حالمة للمكان، اداة قد تنفصل الشخصية تحت أجوائها عن الواقع للإبحار في المجهول، مثال على ذلك (يظل يحي تحت المطر يستمع للعزف الموسيقي و وجهة نظره نحو النافذة، نشعر أنه بانفصاله عن العالم الواقعي و اندماجه بعالم خيالي غير قادر على اختراقه فيزيائيا، عندما يحاول فعل ذلك يعاقب يتم الامساك به بتهمة السكر و السطو) المطر أيضاً كان العامل و العنصر الذي ربط بين يحي و نورا أي ربط الشخصية بما كانت تحلم برؤيته، ففي مشهد ممطر يكون يحي بالشارع و نورا تسير بمظلة، تعرض عليه السير معها تحت المظلة و هنا تبدأ علاقتهم. نلمس روعة استخدام الأدوات بشكل تعبيري مثلاً الزجاجة التي يكون بها الرسالة يعثر عليها يحيى أو لنقل يستلمها من البحر و يعجز عن فك رموزها و قراءتها، الاهم من ذلك أن هذه الرسالة لم يتم استغلالها بشكل درامي باعتبارها عنصر تدور عليها الاحداث كما يحدث في افلام المغامرات، بل ظلت حاضرة و تم تفسيرها بصور غير مباشرة عبر الاحداث و الاكتشافات الداخلية للشخصيات التي تتفاعل و تتصارع مع المجهول و المهددة من الواقع، فمثلاً ( ابيل الفتوه صاحب الجسم القوي يكتشف أنه مصاب بورم خبيث و أن عملية استئصال الورم قد تجعله يفقد الذاكرة، يفر من غرفة العمليات الى البحر)، هنا يكتشف خوفه ليس من الموت بل من حياة جديدة قد تجعله يقتل و يعتدي على الناس مرة اخرى، غموض الرسالة و العجز عن قرأتها بصورة مباشرة هو نزعة للعالم الميتافيزيقي و قوته و ضعف الانسان في الكثير من الأحيان على فهم بعض الظواهر الغيبية، فهذا العالم مصور بشكل مادي و حاضر لكن فهمه فهم كامل يظل محرك للتفكير و التأمل، كان من الرائع عدم اظهار الكتابة الموجودة بالرسالة و تصويرها بلقطة قريبة لان ذلك كان قد يسبب ابطال مفعولها وتأثيرها كدلالة. تكرار بعض الأدوات مثل النافذة، ربما اساء البعض فهمها باعتبارها عامل تشويش و لكن لو تأملنا سنجد أنه تم استخدامها بشكل مبكر في بداية الفيلم، كانت أشبه بستارة المسرح للانتقال من مشهد الى اخر و من حالة إلى حالة فنرى الشخصية أي يحي في البيت القديم يغلق النافذة ثم مع فتح النافذة نجده في شقة الاسكندرية ، هي وسيلة للنظر إلى العالم البعيد من خلالها نكتشف البحر من وجهة نظر الشخصية، فالنافذة هنا اداة للتأمل العالم المادي و هي منفذ لرؤيته و هي من ناحية أخرى ذلك المانع و الساتر و الحاجز الذي يخفي عالم اخر مجهول، يحي يظل ينظر للنافذة، يحس بما ورائها و متعلق بها لكنه عاجز عن اختراقها و النافذة أيضاً كشفت واقع بعض الشخصيات مثلا (نورا بعد أن ينتهي الزوج من ممارسة الجنس معها، تغادر السرير و بعد الحوار نرى لقطة للنافذة من الداخل و تتحرك الستائر كأنها صورة اخرى لموج البحر هنا نكتشف الوحدة و الضياع لهذه المرأة و أنها فعلا تعيش في سجن مرعب.. من الملاحظ أن القوة في الفيلم للصورة و الحوار كان عامل ثانوي و قليل لكنه كان معبر و مثير للإحساس، يكشف عن مخاوف و اضطراب الشخصيات وقلقها من المجهول، ففي المشهد الذي يعدد فيه ابيل اسماء اصدقائه، يطلب من زوجته أو عشيقته أن تذكره بهم قبل العملية نُحّس بالشخصية و صفاء روحها و بساطتها اغلب الشخصيات تتحدث بشكل هادئ، تلعثم الشخصية الرئيسية خلق ايقاع خاص ليس لغرض كوميدي وليس لإثارة الشفقة و التعاطف مع الشخصية و لكن ذهب المخرج ابعد من ذلك لجعلنا نُحسّ بروح الشخصية، ابتعد المخرج عن الصراخ و الزعيق ، الحوار كان له ايقاع جذاب، كان للصمت حضور جيد و قليلة جداً هي الافلام العربية التي تشتغل على الصمت بطريقة فنية موحية، يمكننا أن نعتبر هذا الفيلم من النماذج الرائعة للاستخدام الجمالي للصمت، حتى عناصر الطبيعة مثل أمواج البحر و المطر هي الاخرى تتحدث بهدوء حتى في لحظات غضب البحر، عندما يتم صيد السمك بالديناميت فنحن لا نسمع صوت الانفجار، نُحس بهذا التعسف على الطبيعة بواسطة الصورة بظهور الاسماك تطفو على سطح البحر، الشخصيات تتألم وتبكي بحرقة في صمت، تثور و تعرب عن لذتها و فرحها في اجواء صامته أو خافته عبر تعابير الوجه و اعطاء مساحة للاشتغال على الجسد الانساني. التكنيك السينمائي المتبع في الفيلم يميل إلى الشاعرية اكثر من الحدوثة القصصية، نلاحظ القطع يتم دون المضمون، تجزئة للحكاية و خلط بعض الاحداث بعضها ببعض، فالتشتيت و الغموض محاولة للخروج من دائرة القصة، لعلنا هنا لا نكتشف الشخصيات دفعة واحدة و لا يتعب المخرج نفسه في استغراق وقت كبير في مقدمة و البحث عن الجذور الاجتماعية للشخصيات و لا يعني ذلك أن الشخصيات منقطعة و مبتورة و غير متكاملة البناء الفكري و الاجتماعي، لكن العرض لها كان بشكل غير مألوف بالسينما العربية و خصوصا الافلام المنتجة حديثا التي تشتغل و تعرض الشخصيات بشكل مباشر عبر احداث منسقه و مترابطة يحكمها المنطق و هي تسير وفق حبكة معقدة و حلول اي التعقيد و الانفراج و نهاية سعيدة او حزينة و لكننا عبر هذه الشخصيات يمكننا الاحساس باننا امام لوحة انسانية متكاملة نستطيع ان نجمعها و نفهمها كل واحد منا حسب تجاربه و ثقافته ، كل شخصية ظهرت هي دلالة لشريحة مثلا فمثلا المرآة الايطالية العجوز هي انسانة ارتبطت بمكان أي الاسكندرية و تشعر بالحزن لمغادرة الشقة تحت ضغط تهديد صاحب البيت و تعترف بانها اسكندرانية اصيلة و كل شخصية من شخصيات الفيلم لها اسلوب لها افكارها و احلامها و مخاوفها و اطماعها في الحب و الحياة ، هي تبحث عن الامل و السعادة رغم المنغصات و التغييرات الاجتماعية و هي على الاستعداد للثورة على بعض التقاليد و القوانين و خصوصا صورة المرآة فمثلا كارلا فشلت في اغلب علاقاتها العاطفية مع الرجال و عودة يحي الحب القديم لن يكون بداية لعلاقة جديدة مع رجل ، في معملها سرعان ما تشعر بانجراف عاطفي مع امرأة اخرى و تسير مع هذا التيار لترتبط بعلاقة معها، خلال الباب الزجاجي يقف يحي بعد أن يسمع الضحكات بين كارلا و صديقتها نشاهد مرور جسد أنثوي عاري عبر الباب الزجاجي ثم نشاهد كارلا مع صديقتها يتقاسمان انفاس سيجارة.. لا نعتقد أن عزل الحدث بعدم عرضة بشكل مباشر ناتج عن الخوف من الرقابة، لكن تاثيره بهذه الطريقة كان اكبر من العرض، هنا الحذف أبلغ من العرض و عودة لجوهر السينما. لو توقفنا امام الحاج هاشم وجه للبرجوازية و التظاهر بالدين، رغم ظهوره المتواضع الا أنه كافيا لكشف القناع عن هذه الشخصية التي ظاهرها التقوى و باطنها الظلم و الافتراء و التسلط، الشخصيات جميعها تشكل لوحة موزاييك لمجتمع إنساني تعصف به المتغيرات و الاحلام و الاطماع و الطموحات و المخاوف. خالف المخرج او انقلب على الكثير من الأساليب المعتادة بالأفلام المصرية ، قد يُحس البعض انه امام فيلم فرنسي أو ايطالي، تم استخدام بعض الاماكن بصورة غير مألوفة مثلاً تغادر نورا و يلحق بها يحي ينزل من الدرج، عند بوابة العمارة يمسك بها تثور العواطف يكون عناق حار يتحول الى مشهد ساخن الحدث او المشهد الساخن اكثر إنسانية معبر بشكل اكبر بعيداً عن المعتاد في الافلام المصرية حيث نرى في الكثير من الافلام العشيقة أو المومس ترقص لصاحبها ثم يكون الفعل، لكن هنا نورا تعرب عن لذتها هي شجاعة في الافصاح و التلذذ مع يحي كحبيب، رغم أنها متزوجة، تنحاز للذة و الحب و تثور على الزوج الشكلي الشرعي معتبره اياه زبون، هي تضحي بسمعتها و لا تصارح يحي بانها زوجة و أن علاقتها به حبيب و عشيق علاقتها العاطفية معه تجعلها تشعر بكيانها و وجودها كإنسانة يحق لها التمتع بالحياة و اللذة حتى و أن كان ذلك مخالف لعادات و تقاليد المجتمع. في الختام نقول من الصعب ايجاز جماليات هذا الفيلم في مقال و هذه النقاط هي ملاحظات سريعة حول هذا الفيلم باعتباره نموذج فريد يحوي مضامين فلسفية رائعة و رؤية عميقة لواقعنا يعترف بنا و يميط القناع عن الكثير من المتغيرات التي تعصف بنا، يحاول التعمق بالروح الإنسانية يبتعد عن المباشرة و الإسفاف في الطرح، يقدم لغة سينمائية راقية تدل على عبقرية المخرج عبد السيد الذي يرسم بكاميرته واقع حالم واقعي مفزع و مثير، كون الكاميرا هنا أداة رسم. المشاهد الاخيرة قمة في الروعة خصوصاً وجود يحي و حبيبته على القارب ثم نرى الاسماك تطفو على السطح تبتعد الكاميرا بذكاء نحن هنا امام فنان يرسم لوحة مفزعة لعالم تسوده الانانية و القسوة على الطبيعة، هي رسالة اعتراض تم تمريرها بشكل غير مباشر للتحذير من مصير التمادي و غرور الإنسان الذي يقتل هذا العالم الجميل بشكل وحشي شهواني، ربما يمكننا أن نفهمه رفض لكل الحروب المدمرة التي يرتكبها إنسان اليوم لجني ارباح مادية رخيصة لكن مفادحها وخيمة و كارثية تنذر بفناء الكون و الإنسان أيضاً. لمشاهدة الفيلم اضغط هنا سينمائي يمني مقيم في فرنسا