رغم إعلان تنظيم القاعدة عن فشل الهدنة بينه وبين النظام، والتي سعى فيها عدد من علماء ومشايخ اليمن، إلا أن الغارات الأمريكية، التي تشنها طائرات من دون طيار، وبطيار أحيانا، توقفت منذ شهر ونصف. وهذه هي أطول مدة تتوقف فيها طائرات أمريكا بنوعيها عن شن غارات على أهداف مفترضة لتنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب، منذ مطلع العام 2012م. وقبل أن تتوقف الغارات بشكل مفاجئ، كان طيران أمريكا قد شن غارات عدة في أكثر من محافظة يمنية راح ضحيتها ما يزيد عن عشرين من أعضاء تنظيم القاعدة بينهم قيادات ك"أبو يوسف" أمير صنعاء، بالإضافة إلى سقوط مواطنين في غارة سنحان الأخيرة وقتل الراصد "المخبر" في محافظة الجوف عن طريق الخطأ. وعلى إثر هذه الغارات شدد تنظيم القاعدة من احتياطاته الأمنية بشكل أثر نسبيا على نشاطه العملياتي. ويلجأ التنظيم إلى هذا التكتيك حينما تتفوق خسائره على ما يحققه من نجاحات، لهذا خفت وتيرة الاغتيالات. وتوزعت الغارات الأخيرة على محافظات مأربوالجوف والبيضاء وصنعاء. وهي الغارات التي دفعت لجنة الوساطة إلى إصدار بيان حملت فيه نظام هادي مسئولية إراقة الدماء، على اعتبار أنه الطرف الذي رفض التوقيع على الهدنة، بعد أن وقع عليها أمير تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب ناصر بن عبد الكريم الوحيشي المكنة "أبو بصير".
تاريخ الغارات الأمريكية في منتصف عام 2011م وافق الكونجرس الأمريكي على الطلب الذي تقدم به الجنرال ديفيد بترايوس بخصوص توسيع رقعة عمل الطائرات الأمريكية من دون طيار في اليمن. ولم يشهد عقد من الزمن سبق هذا التاريخ سوى أربع غارات، غارة في عام 2002م بمأرب أودت بحياة من كان المطلوب الأول، أبو علي الحارثي، وغارة في عام 2009م بمحافظة أبين قتلت ما يزيد عن خمسين مواطنا بينهم نساء وأطفال، وغارة تلتها بثلاثة أيام في وادي رفض بمحافظة شبوة وقتلت عددا من أعضاء التنظيم بينهم القيادي محمد عمير الكلوي، وغارة في عام 2010م بمديرية مودية في محافظة شبوة قتلت القيادي في تنظيم القاعدة جميل العنبري، وهناك حديث عن غارة خامسة في مديرية أرحب بمحافظة صنعاء عام 2009م قتلت القيادي في تنظيم القاعدة هاني شعلان. وبسبب المعارضة الشديدة لهذه الغارات، بقي كل ما يتعلق بهذه الغارات سريا، ولم تصل الجرأة الأمريكية في عهد النظام السابق حد أن يتقدم بترايوس بطلبات كهذه، حتى جاء عام 2011م الذي بدأت فيه أزمة ما سُمي "ثورة الشباب". وحينها كانت الفرصة سانحة لتوسيع دائرة العمل العسكري الأمريكي في اليمن دون أن يواجه ذلك بمعارضة داخلية، فجميع قوى الداخل المتصارعة تراهن على الموقف الأمريكي لحسم الصراع، ولن تقف أمريكا إلا إلى جانب من يقف إلى جانب قلقها من تنظيم القاعدة. لقد وقف الجميع إلى جانب القلق الأمريكي، ووقفت أمريكا إلى جانب الجميع بمبادرة لم تحسم الصراع لصالح طرف دون آخر بل أوصلت كل الأطراف إلى السلطة. ولم يعد يهم أمريكا صراع تلك الأطراف داخل السلطة بعد أن حسمت صراعهم عليها بالشكل الذي يضمن لها عدم تمرد أي من أطراف الصراع عليها.
2012م عام الزيارات والغارات تضاعفت غارات الطائرات الأمريكية من دون طيار وبطيار بصورة غير مسبوقة بعد عملية نقل السلطة إلى الرئيس هادي في شهر فبراير 2012م. ثم توالت تصريحات المسئولين الأمريكيين المشيدة بتعاون الرئيس عبد ربه منصور هادي في مجال الحرب على الإرهاب. ووجدت مثل هذه التصريحات طريقها إلى وسائل إعلام حزب الإصلاح تحديدا، كونها تتضمن مقارنة بين مرحلتين وتؤيد ما ظلوا يروجون له دوما عن علاقة تنظيم القاعدة بالنظام السابق، رغم أن التعاون المذكور يعني التنازل عن السيادة الوطنية لا أكثر. وفي لقائه مع جريدة الشرق الأوسط قال السفير الأمريكي لدى صنعاء جيرالد فايرستاين "إن العلاقة التي بنيناها مع الرئيس هادي خلال الشهور الماضية كانت متميزة، ومستوى التعاون بين حكومتينا لم يكن أفضل مما هو عليه الآن". ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عن مسئولين أمريكيين قولهم في هذا الصدد "إن الرئيس اليمني الجديد قد أبدى دعما قويا للحملات التي تستهدف الجماعة الإرهابية يفوق ذلك الذي أبداه سلفه علي عبد الله صالح". كما سجَّل العام 2012م أكبر عدد من زيارات المسئولين العسكريين الأمريكيين لليمن، ومن بين أهم تلك الزيارات زيارة لمن يُعرف اليوم في أمريكا ب"محارب الطائرات من دون طيار" مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون مكافحة الإرهاب، جون برينان، في 13\مايو\2012م. ومن الزيارات المهمة في هذا العام أيضا: في شهر إبريل 2012م استقبل الرئيس هادي وفدا أمريكيا برئاسة مدير مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي روبرت مولر. وفي شهر يونيو 2012م استقبل الرئيس هادي وفدا أمريكيا برئاسة قائد القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى الفريق جيمس ماتيس. والجنرال جيمس ماتيس هو صاحب عبارة "إن القتل في بعض الأحيان يكون متعة". وفي شهر يونيو 2012م استقبل الرئيس هادي وفد الكونجرس الأمريكي برئاسة عضو لجنة الإشراف وإصلاحات الحكومة رئيس اللجنة الفرعية الفنية لتنظيم كفاءة الحكومة وإدارة التمويل في الكونجرس الأمريكي تود بلاتس. وفي شهر يونيو 2012م استقبل الرئيس هادي مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية راجيف شاه. وفي شهر يونيو 2012م استقبل الرئيس هادي رئيس مجلس إدارة غرفة التجارة الأمريكية العربية دافيد فيلبس. وفي شهر يوليو 2012م استقبل الرئيس هادي وكيل وزارة الخارجية الأمريكية وليام بيرنز. وفي شهر يوليو 2012م استقبل الرئيس هادي وفد الكونجرس الأمريكي برئاسة وليام شوستر. ومعظم المسئولين العسكريين الأمريكيين الذين التقوا بالرئيس هادي، ممن ذكروا وممن لم يُذكروا، التقوا أيضا بوزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الإعلام، بالإضافة إلى رئيس هيئة الأركان العامة. وتلت هذه الزيارات موجة غير مسبوقة من غارات الطيران الأمريكي من دون طيار وبطيار قابلتها موجة غير مسبوقة من الاغتيالات لمسئولين أمنيين وعسكريين. وسقط في غارات عام 2012م ما يزيد عن 2000 شخص بينهم مواطنون ومتعاطفون مع تنظيم القاعدة ومنتمون جدد إليه. وطال القصف الأمريكي محافظات أبينوشبوةومأربوالجوف وصعدة والبيضاء ولحج وعدن وحضرموت وصنعاء. وقبل أن ينقضي عام 2012م سعى بعض علماء ومشايخ اليمن في هدنة بين الطرفين.
لماذا توقفت الغارات؟ احتمالات عدة لتوقف الغارات الأمريكية مؤخرا، أهمها: 1 توقفت الغارات بعد أن كشفت وسائل إعلام أمريكية عن وجود قاعدة عسكرية سرية أمريكية في المملكة العربية السعودية، وهذا يعني أن موضوع القاعدة العسكرية الأمريكية المزعج جدا للمملكة العربية السعودية سيثار مع كل غارة أمريكية تُنفذ داخل الأراضي اليمنية، وليس بمقدور السعودية أن تنفي انطلاق الطائرات من أراضيها لضرب اليمن مادام أن هناك قاعدة عسكرية أمريكية أُنشئت لهذا الغرض. 2 توقفت الغارات بعد ترشيح مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون مكافحة الإرهاب جون برينان لمنصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "سي آي إيه". ونظرا لوجود معارضة شديدة في الداخل الأمريكي لتولي برينان هذا المنصب، لم تكن الإدارة الأمريكية بحاجة إلى أن تغذي مثل هذه المعارضة، فكل ردة فعل على الغارات ستصب في صالح عدم التصويت لبرينان في هذا المنصب. والأسبوع الماضي تم التصويت لبرينان مديرا للوكالة. 3 عودة الهدنة بين تنظيم القاعدة ونظام هادي، لهذا كثفت أمريكا من غاراتها جدا قبل أن تتوقف للهدنة، رغم أن التنظيم أعلن عن فشلها، وتصرف فيما بعد على أساس أن الهدنة فشلت. 4 توقف تكتيكي لغرض الرصد ومن ثم العودة بجملة من الغارات التي يمكن أن تشل حركة التنظيم بشكل كبير. 5 الاقتناع بأن تلك الغارات تأتي بنتائج عكسية، وربما كان لمسيرة "كرامة وطن" التي رفعت الأعلام السوداء أمام منزل الرئيس هادي دور في ذلك. 6 تهيئة الأجواء للحوار الوطني الذي سينطلق في الثامن عشر من الشهر الجاري.