عندما لا يكون الآخر شرطاً لوجودي، يصبح هذا الوجود مهدداً بالفناء، وحتى ننتقل إلى هذا الأفق التربوي نحن بحاجة إلى تغيير أسس الفلسفة التربوية التي نشأنا عليها، هذه الفلسفة التي تجعل من ولي الأمر سلطة مالكة لنفسك ومالك، وتجعل ممن علمك حروفاً مهترئة مالكاً رقبتك وفق المقولة المأثورة التي تعلمناها في المدارس "من علمني حرفاً صرت له عبداً"، وفي نهاية المطاف يصبح ولي الأمر في ال...أسرة والقبيلة ورأس الدولة هو المالك لك ولعرضك. في سياق تربوي وثقافي كهذا تصبح الهويات الجامعة تعبيراً عن أشكال للسيطرة، تبرر الواقع وتشرع له. وفي واقع يقوم على التنوع واستثمار الممكنات والإيمان بالآخر، تصبح الهوية فيه مكتسباً وطنياً ونفعياً نسعى إليه لأنه حمايتنا، ويصبح نشيده وعلمه وجداننا، وليس مجرد خرقة – فحسب – مرفوعة على سارية. هناك الكثير من الهويات التي يمكن أن نبعثها من أعماق التاريخ، متوهمين أننا بإعادة إنتاجها نكون قد حمينا وجودنا من الاندثار في حين أن هذا الوهم لا يستند سوى إلى أماني وقدر كبير من الغفلة. لنفترض أني كتعزي وشافعي، رفعت راية "التعزية والشافعية" كهوية وطنية أحتمي بها، فهل ستحقق هذه الهوية((المتخيلة)) وجودي على المستوى المادي والروحي؟ لا أعتقد ذلك، فجغرافية تعز ضيقة وجبلية، ولا يمكن لها أن تعيل ملايين التعزيين، وأما بالنسبة للهوية الشافعية فهي لا تتناسب مع الحاجات المعرفية والحاجة إلى الحرية، فالمذهب الشافعي لا زال حتى اليوم محتفظاً بفقهه الخاص بالعبيد على افتراض أن زمن العبيد قد يعود، ولا بد أن نكون جاهزين بفقه متوارث لمواجهة حالة الرّق القادمة، وعلى مستوى الأحكام السلطانية فهو يقوم على أساس طاعة ولي الأمر وإن ظلمك وجلدك، فالخروج عليه مروق من الدين، والسلطان لا يكون للغوغاء والدهماء والسوقة، وإنما حق محصور ب "أهل الحل والعقد". إذن، ما هي مصلحتي من هذه الهويات التي تسلبني حقي في الحرية وفي الكرامة وتجعلني أعيش على "الإحسان" وليس على أساس الحق في الحياة، وعلى هذا النهج يمكن النظر إلى الزيدية أو الهويات التي تستند إلى جغرافية القبيلة. إن تقرير المصير حق والوحدة حق والحق لا يضاد الحق. معنى ذلك أن ما تم في 22 مايو 1990 لم تكن وحدة، وإنما دمج سياسي لنظامين قاما على صيغة تقاسمية، وعندما اختل التوازن بينهما لصالح الطرف المتغلب ظهرت سوأة اتفاقية 30 نوفمبر ووحدة مايو 1990. ما نحتاجه ليس العودة للوراء، لأن الوراء موغل في متاهاته، ما نحتاجه هو أن نتحرر من ثقافة المكايدة، وسلب الآخرين حقهم في المواطنة المتساوية. نحتاج إلى تأسيس تربوي تعليمي ينتمي للعصر، وواقع سياسي لا يقوم على الأطراف المعنية وإنما على المواطنين المعنيين، فالتفكير في واقعنا الصحي والتعليمي والثقافي والاقتصادي والسياسي، يعطي مؤشرات أننا وصلنا إلى كارثة، وأن التفكير بطريقة استثمار الواقع المأزوم من أجل التحكم به لن يؤدي في نتائجه سوى إلى خراب وخيم. صناعة الهوية من موقف الانفعال لن تنتج لنا سوى هويات متقاتلة تحمل بذور فنائها في أسس تكوينها، لهذا لا بد من صناعة الهوية الوحدوية لليمن على أسس الديمقراطية والتعدد، والتوافق بين المتعدد، وهو الذي سيجعلنا نصبح هوية جامعة؛ أما المواقف المبنية على أساس الاستلاب واقتناص الفرص، واستثمار حالة الغليان للوصول إلى ما يعزز من ثقافة "المحاصصة" المحكومة بثنائية "الزلط والدبابة"، فلن توصلنا إلى يمن موحد ،وإنما إلى يمن مفتت تكون فيه سياسة الترغيب والترهيب هي الثنائية التي ستعجل بوقوعه. فصناعة اليمن الوحدوي ينبغي أن تقوم على النظر إلى كل مكوناته وليس إلى شركاء الحكم في الشمال وشركاء الحكم في الجنوب، اليمنيون كلهم شركاء وهم بحاجة إلى دولة مركزية متماسكة ،وحكم ذاتي قوي يلغي ثنائية المركز والأطراف وثنائية "الشرعية والانفصال". إن توصيف "شمال الشمال" بأنه منغلق والجنوب بأنه منفتح توصيف فيه قدر واضح من الدقة، لكن تعميم هذا التوصيف وتحويله إلى قانون طبيعي وحتمي يخرجنا من الدقة إلى الشطط، ويجعلنا في حالة تبادل للأدوار، إذ نتقمَّص روح الانغلاق بدعوى الانفتاح، فليس هناك بنية اجتماعية يمكن أن تستعصي على الاندماج والانفتاح في الحاضر والمستقبل، المهم أن نسعى إلى تشكيل وصياغة هويتنا الوحدوية على أسس العدل والتبادل والتوازن، وليس على أسس الغلبة والظلم أو الانكماش والتعالي والادعاء بالتفرد، هوية أساسها الحوار بين مكوناتها وليس تعميم ثقافة أحادية تحت دعوى "الأصلانية" أو "التفرد الانفتاحي"، الحوار الذي سيجعلنا نصنع هويتنا المكتسبة المنتمية لجهودنا، وليس هوية نعيد إنتاجها من الماضي الذي لم تقم صيغه الواحدية إلا بحد القوة والغلبة واستلاب المهزوم أرضاً وإنساناً. ينمو الغرب لأنه استثمر ممكناته المتاحة وانتقل إلى استثمار ممكنات الشرق، في حين أننا أمةٌ بدائية لا زلنا نحتكم إلى استثمار القبيلة وغلبة السلطان، واستضعاف الدهماء والغوغاء والسوقة. هؤلاء ليسوا ممكنات وإمكانات وقدرات، إنهم "بدون" يتم تسخيرهم لتعمير مملكة القبيلة. لا زالت ممكناتنا بكراً ويمكن لنا أن نستفيد منها لكي نخرج من دوامة الذات التي لا ترى أبعد من أنفها؛ لذلك فهي تعيش في التاريخ وتؤكد على أنها مصدره والآخرون هباء. في تناولة سابقة كنت قد وصفت حركة "الفقيه سعيد" في العدين أواسط القرن التاسع عشر بأنها حركة انفعالية، وأصفها اليوم بأنها انعكاس لصورة الجلاد، إذ كيف لك أن تواجه الاستبداد القبيلي، لقبائل المشرق آنذاك، باستبداد مقابل، وتبدأ بقطع الطريق وممارسة الظلم تجاه كل من ينتمي لجغرافية الجلاد، وقبائل المشرق للتوضيح هي "يافع وشبوة ومأرب والبيضاء"، أي أنها ليست قبائل شمال الشمال كما قد يتوهم البعض. أصفها بأنها انتحارية وليس لها مشروع دولة يمكن لها أن تستمر وتتجاوز حدود بعض قرى "قضاء إب". فإقامة دولة من "سمارة إلى العدين" والدعاء "للفقيه سعيد" بالخطب وسك النقود باسمه كل ذلك يصبح مشهداً انتحارياً، لا يؤسس لدولة ولكنه يعلي من شأن القرية لتحل محل قبائل المشرق، والمذهب السني السلفي ليحل محل المذهب الزيدي السلفي، وأمام هذا المشهد تصبح الغلبة الآنية للأقوى من حيث حشد القبائل والأقوى مادياً. لقد كانت رؤية المعتزلة لمسألة الخروج على الحاكم ناضجة حتى يومنا هذا لأنهم ربطوها بالاستعداد في العدة والعتاد، وما دون ذلك يعد وأداً لإمكانية التغيير. تأسس الفكر القومي على ثوابت الحرية والاشتراكية والوحدة، ونظر القوميون إلى العلاقة بين هذه الثوابت على أنها جدلية ومتداخلة، لكن واقع الممارسة ألبس القبيلة والعشيرة رداء القومية، وصادر حرية الفرد لمصلحة الحزب الأداة، وتعامل مع الوحدة على أنها حق فطري وطبيعي يجب "إعادة" تحقيقه "حرباً أو سلماً" ترغيباً أو ترهيباً، وهنا صارت الوحدة لدى القوميين مفرغة من الحرية السياسية للأفراد والجماعات، أخذت الاشتراكية شكل رأسمالية الدولة "الأب"، ولهذا فإن الهوية القومية التي أنتجها الناصريون والبعثيون هوية أساسها التوافق مع الطبيعي وإعادته، فهي ليست فعلاً مكتسباً يقوم على الاختيار وتحقيق المصالح والاحتماء بهوية جامعة تشعرك بذاتك، وإنما هي على صورة إنتاج هويات بحد السيف، ولهذا يكون حنين القومي للتاريخ الذي ضمّ الأرض ووحدها بحد السيف، وتاريخ الإمبراطوريات المعمدة بالدم، والذي ينتشي بالأخير بجلب الغنائم من أموال ونساء وعبيد... من الواضح أن قومية "بسمارك" هي كعبة القوميين العرب، ولهذا أشاحوا وجوههم عن نظرة الفرنسيين للقومية المكتسبة وغير الفطرية. قومية العربي هي ترابط وتزاوج بين العشيرة والقبيلة والدولة، وينظر إلى الدين كمعزز لهذه الصورة. هكذا كانت خطابات صدام حسين تستنجد إبان "قصف بغداد" بالأماجد والشهامى، بالعشائر والقبائل كهوية جوهرية يتم الاحتماء بها بعد انقشاع قشرة الأيديولوجيا "البعثية".