لولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر لبطل أول العلم، وضاع آخره، إذ كان كل علم من الأخبار يستخرج وكل حكمة منها تستنبط والفقة يستثار والفصاحة منها تستفاد، وأصحاب القياس عليها يبنون، وأهل المقالات بها يحجتون ومعرفة الناس منها تؤخذ، وأمثال الحكماء فيها توجد، ومكارم الأخلاق ومعاليها تقتبس، وآداب سياسة الملك والحزم منها تلتمس، وكل غريبة منها تعرف، وكل عجيبة منها تستطرف، وهو علم يستمتع بسماعة العالم والجاهل، ويستعذب موقعه الأحمق والعاقل، ويأنس بمكانه وينزع إليه الخاصي والعامي، يميل إلى رواياته العربي والعجمي. بينما كنت حاضرا بين يدي القاضي يحيى بن محمد العنسي - أحد حكماء مدينة ذمار ووجهاءها - في أحد مجالس القات طرحت عليه سؤالا ظل يحيرني سنوات طويلة منذ غزو العراق او بالاحرى منذ نشأت الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة هناك وكاد هذا السؤال يزلزل إيماني ويشكک في عقيدتي فقلت له سيدي القاضي: منهم على الحق السنة او الشيعة? فلم يرد عليا بحرف واحد بل قال: يا عبدالرحمن أنزل وأبحث في المكتبة عن كتاب 'إسلام بلا مذاهب' وإعط الشيخ عامر ليجيب عن سؤاله بما يريد، وما هي إلا لحظات حتى وأصبح الكتاب في يدي أقلب صفحاته وأتفحص المقدمة والفهرس لأجد ما كنت أبحث عنه هل هو فعلا موجود بذلك الكتاب!! فأستعرته من القاضي لمدة ثلاثة أيام حرصت خلالها على قراءته ثلاث مرات متتالية لكي تترسخ في ذهني المعلومات وافهمها أكثر فأكثر، فجزاه الله عنا الخير والثواب وأمده العمر المديد وحسن الخاتمة.
وما أود طرحه لكم اليوم في هذه المقالة هو زبدة الزبدة ليستفيد بها كل مسلم لا يعلم عن دينه شيئا خصوصا وقد أنتشرت الدعوات التحريضية ضد المذهب الزيدي وهو مذهب غالبية أهل اليمن ويميل لمذاهب أهل السنة بالرغم من انه محسوبا على أهل الشيعة، فالمذاهب السنية الأربعة - المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي - هي أصح المذاهب وأصدقها بإجماع الغالبية العظمى من المسلمين ويتبعها مباشرة المذهب الزيدي والذي لايكاد يختلف عنها في شيئا يذكر سوى الظم والسربلة وحصر الإمامة في آل البيت فالمذهب الزيدي يقول بأنه يجب أن يكون الإمام من آل البيت فيما المذاهب السنية الأربعة تركت هذا الشرط مفتوحا في أختيار الإمام حتى ولو كان من العامة طالما توافرت فيه بقية الشروط، وهذا لا يمثل أختلافا ابدا بل يعتبر من باب الأجتهاد لدى علماء الزيدية وجمهورها في اليمن.
والمذهب الزيدي نجده أيضا أشد حرصا من المذاهب الاخري في بعض مسائل الفقة مثل مسألة أن لايكون الطلاق بائنا الا اذا تم ذلك الطلاق في ثلاث مواقف مختلفة تتم خلالها الإرجاع والطلاق ثم الإرجاع والطلاق وهو ماعملت به المذاهب السنية الأربعة مؤخرا وأكدت صحته وجوازه، وهنا وما اردت قوله هو أن المذهب الزيدي لايسب الصحابة ابدا ولا يعمل بالتقية ولا يحلل زواج المتعة بل أنه أشد من حاربها في بلاد اليمن، وما نراه اليوم من مذاهب وطوائف أخرى عمل الأعداء من خلالها وسعوا لتفريق الأمة وتشوية الإسلام والمسلمين عن طريق المذهبية ونشر الطائفية بدعوى الفتنة بين السنة والشيعة، وجميعها لا تنتمي لهذه الخمسة المذاهب إطلاقا مهما تشدقوا بالدين ورفع جميعهم الرايات والشعارات وأصدرو الفتاوي والأحكام، فتلك المذاهب سوى كانت سنية ام شيعية هي عبارة عن أفكار ومعتقدات خرج معظمها عن العقل والمنطق والمألوف وبعضها أقوال وأحاديث نسبت الى أئمة هم أبرياء منها براءة الذئب من دم يوسف، او جماعات تطرفت ورفعت السلاح بدعوى محاربة البدع وتشددت في أشياء قد تكون من العادات لا العبادات، وجميعها أستخدم الدين كوسيلة للحكم وغطاء لنشر الفتن عن طريق المذهبية المقيتة التي لاتصب ألا في مصلحة أعداء الإسلام فقط.
هنا وختاما أدعوكم جميعا إلى التحلي بسماحة الإسلام لانها من خلق الإسلام نفسه، فمن السماحة عفو الله ومغفرته للمذنبين من عباده، وحلمه تبارك وتعالى عليهم، وتيسير الشريعة وتخفيف التكاليف عنهم، ونهيهم عن الغلو في الدين والتشدد فقال تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُم ُالْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ - وقال: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.- وقال سبحانه: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا - وقال صلى الله عليه وسلم: 'إنَّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة'، وتذكروا بأن تلك المذاهب الخمسة ما وجدت الا لتحقيق الوحدة الإسلامية والقضاء على عوامل التشرذم والتفرق وجل سبحانه القائل: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. صدق الله العظيم