لا أعرف من منا على حق. أمور كثيرة لا أفهمها، لم أعهدها من قبل. تحاصرني الأفكار، وأقع صريعة خيال غارق في السريالية. تنتابني نوبات ألم حادة. كل شيء يتبدد أمامي كسحب عاقرة.. الضمير، الإنسانية، الحب، لا تعدو كونها مفردات منفلتة عن سياقاتها. زمن يصارع نفسه... ليل فاتر... نهار مقرف... ساعات مثقلة بالكآبة. أركب الحافلة... يجلس بجانبي. وفي الخلف منا يجلس آخر، أحس بدخان سيجارته يتسرب إلى مسامات جسدي قبل أنفي، أبدي تأففا، أستدير نحوه: - رجاء اطف سيجارتك يرد بسخرية: - على المتضرر اللجوء إلى القضاء. فيبادر الجالس إلى جواري: - أعتقد أن الآنسة على حق يواصل تدخينه غير آبه بكلامنا. حينها أستوقفت سائق الحافلة قائلة: - إما أنا أو هذا المدخن... ألا تمنع التوجيهات التدخين في الحافلات العامة؟ تأخذه العزة بالنفس، فينزل ملتفتا نحوي بغضب قائلا: - اشبعي بالحافلة! أمضي في طريقي، راسمة خارطة يومي، حاملة بين ذراعي كاميرا. يستوقفني منظر يثلج الصدر. كانت ترضع صغيرها غير آبهة بمن حولها، آه... ما أجمل ذلك!... التقطت لها عددا من الصور، مفتتنة بشعورها الفياض تجاه صغيرها. أواصل طريقي مبتسمة، وفجأة أرى طفلا يهرول نحوي، الشحوب يعلو وجهه. ترجاني أن أعطيه نقودا ليفطر. انتابني بكاء هستيري، يفر الصبي فازعا اعتقادا منه أني مجنونة، أحاول أن أناديه، لكنه كان قد اختفى عن نظري. أمر بجوار مقهى. كانت هناك مجموعة من كبار السن، يتبادلون الحديث، تمتلكني رغبة في الجلوس إلى جوارهم ومشاطرتهم الحديث. أجلب كرسيا لأجلس بينهم، يحدثني أحدهم -بلطف - أن ذلك غير ممكن، فهذا مخصص للرجال. أقوم متمتمة: مكان مخصص للرجال!... وفي طريقي رأيت فتاة مراهقة تقف على ناصية الشارع، أراقبها لثوان. تمر سيارة... تقف بمحاذاتها، تدنو برأسها من زجاج النافذة، يفتح باب السيارة، ترمي بنفسها في جوفها. يرن هاتفي لأتلقى مكالمة: جارتك... المرأة المريضة نقلت إلى المستشفى بحالة خطرة. أسرع إلى المستشفى... يشار إلى العنبر الذي نقلت إليه. عيناي تبحثان عنها فوق الأسرة، لا أجدها. اسأل الممرضة عنها، فأسمعها تناديني، أنظر تجاه الصوت، فإذا بها مرمية على الأرض. أصرخ: - لماذا أنت مرمية على الأرض؟ تجيبني إحدى المرافقات: - لا توجد أسرة فارغة فأعود إلى شارعي الملوث بالبنايات.