الكشف عن شرط حوثي صادم مقابل السماح بنقل البنوك إلى عدن    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    صحفي سعودي: الأوضاع في اليمن لن تكون كما كانت قبل هذا الحدث الأول من نوعه    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    كأن الحرب في يومها الأول.. مليشيات الحوثي تهاجم السعودية بعد قمة الرياض    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    رسالة سعودية قوية للحوثيين ومليشيات إيران في المنطقة    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز برباعية امام فالنسيا    طفلة تزهق روحها بوحشية الحوثي: الموت على بوابة النجاة!    ثلاثة صواريخ هاجمتها.. الكشف عن تفاصيل هجوم حوثي على سفينة كانت في طريقها إلى السعودية    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    رئيس مجلس القيادة: مأرب صمام أمان الجمهورية وبوابة النصر    الجرادي: التكتل الوطني الواسع سيعمل على مساندة الحكومة لاستعادة مؤسسات الدولة    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    أصول القطاع المصرفي الاماراتي تتجاوز 4.2 تريليون درهم للمرة الأولى في تاريخها    فيتنام تدخل قائمة اكبر ثلاثة مصدرين للبن في العالم    رباعي بايرن ميونخ جاهز لمواجهة ريال مدريد    عاجل محامون القاضية سوسن الحوثي اشجع قاضي    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    ريمة سَّكاب اليمن !    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الأيام".. صراع من أجل الحرية
نشر في عدن الغد يوم 22 - 03 - 2011

الأيام" مؤسسة إعلامية ثقافية مدنية حديثة، اكتسبت اليوم معنى الظاهرة الاجتماعية الثقافية التي تحتاج إلى دراسة سيوسولوجية ونقد ثقافية معمقة قادرة على الإحاطة الممكنة بأبعادها وعناصرها وبنيتها وعلاقتها وأسبابها ونتائجها، إذ يصعب فهم وتفسير مشكلة "الأيام" ومأساتها المروعة بمعزل عن المشهد الكلي والسياق الاجتماعي والسياسي والأمني والثقافي والأخلاقي العام للمجتمع، وما يعيشه من أزمة بنيوية وسياسية وثقافية واقتصادية وأخلاقية خانقة.
إن النظر إلى "الأيام" من حيث هي ظاهرة اجتماعية ثقافية إعلامية مدنية نوعية وفريدة، هو المدخل المنهجي المناسب لمن أراد التوفر على تفسير منطقي وفهم سليم لما أحل بها من فاجعة كارثية قلما شهد التاريخ مثيلاً لها في تاريخ الصحافة والوسائط الإعلامية.
فليس هناك مثال سابق في التاريخ الحديث والمعاصر يشبه "الأيام" وما تعرضت له طوال السنوات الماضية من حرب ضروس وعنف غاشم وظلم لا حد له، ولم نعلم أو نقرأ عن (سلطة) حاكمة أو متنفذة حشدت جميع قواها وقوتها وأجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية ضد صحيفة مستقلة وناشريها العزل.
فما الذي يفسر ذلك العنف المادي والمعنوي الظاهر والخفي الذي شنه أمراء الحرب والنهب ضد "الأيام" وناشريها هشام وتمام باشرحيل، وذلك منذ بعيد الاجتياح العسكري الهمجي الشمالي لمدينة عدن في 7/7/1994، وحتى اللحظة، هذا العنف الذي تجلى في صور وأشكال عدة رمزية ومعنوية ومادية، لكنه تدرج في سلسلة متنامية ومتواصلة من الهجمات والمعارك اللفظية والقضائية والعسكرية، إذ أخذت (السلطات) تسدد سهامها إلى قلب وجسد "الأيام"، بينما ظلت هذه الأخيرة تواجه تلك الضربات القاتلة بإرادة مدنية وشكيمة فولاذية وصبر جميل، كان ذلك من خلال الحملات الإعلامية الجائرة التي كانت تشنها أبواق السلطات ضد "الأيام"، أو من خلال التهديدات والاستفزازات التي يتعرض لها الناشران هشام وتمام باشراحيل من خلال الاتصال والهاتف النقال ومن خلال خطابات وأحاديث ومقابلات رمز التسلط والذي عبر غير مرة عن غضبه من "الأيام"، بل وصل به الأمر إلى اتهامها بتهم لم ينزل الله بها من سلطان، كالعمالة لقوى أجنبية، أو للاستعمار، أو الانفصالية والمنطقية والمذهبية والجغرافية، وغير ذلك من التهم والنعوت التي لا ريب أنها تنطوي على شحنة عالية من العنف الرمزي والمادي ضد حقوق الإنسان الأساسية والمدنية.
ويا حبذا لو يتكرم الأستاذ القدير نجيب يابلي بعمل فهرسة وجرد وتصنيف تاريخي منطقي لمسلسل العنف الرمزي والمادي الذي تعرضت له "الأيام" منذ البداية حتى اللحظة الراهنة في مراحله الثلاث.

إلى أسرة "الأيام" ومحبيها:
"كلما توغلنا في الظلام اقتربنا من الفجر"
د. قاسم المحبشي
وكانت الانعطافة الحاسمة في حروب الطغيان ضد "الأيام" هي التي استهلت بها المرحلة الثانية، مرحلة المحاكمات الكيدية والدعاوى الباطلة ضد الصحيفة وناشريها، وهي أشبه بحرب الاستنزاف، استنزاف القوى وإحباط الإرادة وشل القدرات" حيث واجهت "الأيام" وناشراها سلسلة متواصلة من الدعاوى القضائية والقضايا والأحكام والاستدعات المتزاحمة، بحيث بدا الأمر وكأن (السلطة القضائية) قد أنهت جميع واجباتها ولم يعد لديها غير التفرغ لجرجرة باشرحيل وكتاب "الأيام"، ومحرريها من حملة الآراء والأقلام كما عبر عبدالرحمن عبدالخالق في مقال "الأيام... أيامُنا"، في صحيفة "المدينة". أما المرحلة الثالثة في الحرب ضد "الأيام" فهي التي انطلقت شرارتها الأولى في صنعاء بذلك الهجوم المباغت على بيت الأيام من قبل سرية عسكرية يوم الثلاثاء 12 فبراير 2008، حينما أقدم 1 )مسلحا يقودهم نقيب في الشرطة العسكرية (أ.أ.ج) في تمام الواحدة والربع ظهرا، على مهاجمة مقر "الأيام" وسكن الناشرين هشام وتمام في العاصمة صنعاء، وتصدى لهم حارس المبنى المناضل أحمد عمر العبادي المرقشي القابع خلف القضبان في السجن المركزي حتى الآن ظلما وعدواناً، ثم توالت سلسلة الحروب ضد "الأيام" في يوم الجمعة الأول من مايو 2009، في هجوم مسلح ضد سيارة "الأيام" في مديرية الملاح، بنهب 16.500 نسخة من الصحيفة، و55 ألف ريال، وكل الأشياء التي تخص السائق.
وفي يوم الأحد 3 مايو 2009، تعرضت "الأيام" لعملية قرصنة من قبل بلطجية (النظام) في نقطتي "العلم" و"دار سعد" بالسطو على 50.000 نسخة من الصحيفة وبيعها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة. وفي 7 مايو 2009 تحتجب "الأيام" عن الصدور، وفي 13 مايو شنت الآلة الحربية هجوماً عسكرياً مباشراً بالذخيرة والقنابل الحية ضد مبنى الصحيفة ومسكن ناشريها، راح ضحيته أحمد الصارمي، وسلام اليافعي، وعدد من الجرحى.
وفي يوم الاثنين 4 يناير 2010، نفذت الأجهزة الحربية خطة جهنمية، اشتبكت فيها الشرطة بالأمن المركزي، أصيب فيها الضابط سند جميل إثر إطلاق نار مباغت (مخطط سلفاً) استهدف أحد جنود الأمن المركزي فأرداه قتيلاً. وهي مقدمة السيناريو المرسوم من المركز الذي جرى تنفيذه في يوم الثلاثاء 5 يناير 2010، وهو اليوم الدامي الأكثر رعبا وعنفاً إذ جرى حشد آلاف الجنود من مختلف القطاعات الحربية: أمن مركزي، وأمن عام، وأمن سياسي وحرس جمهوري ونجدة، وجيش، معززة بعتاد رهيب من المصفحات والأطقم والعربات والقذائف والقنابل والمدافع، ومختلف أنواع الأسلحة الكبيرة الصغيرة، تحولت معها كريتر إلى ساحة معركة وثكنة عسكرية ضخمة. وفي الساعة الثانية والدقيقة ال50 من فجر الثلاثاء الرهيب، بدأ القصف على مبنى دار "الأيام" وسكن باشراحيل، من جميع الجهات، بكثافة ووحشية لا مثيل لهما. كان من بين المستهدفين 20 امرأة وطفلاً ضمن الموجودين في سكن الناشرين هشام وتمام باشراحيل، وجميعهم من المدنيين العزل.
وبعد ساعات طويلة من القصف والتدمير والإحراق والحصار، أرغم هشام باشراحيل ونجله هاني على تسليم نفسيهما إلى لجنه الوساطة، وكان ولده الأصغر محمد هشام قد سلم نفسه في اليوم السابق ضمن 5 رهائن من أفراد (الأسرة).
وتم الزج بهم جميعاً في غياهب السجن بصور مهينة ليس فيها ذرة من القيم الإنسانية المتعارف عليها في معاملات الخصوم.
إنني هنا استندت في كل ما أوردته من معطيات إلى المقال المهم الذي نشره الأستاذ العزيز نجيب محمد يابلي في صحيفة التجمع عدد 752، 15/2/2010، بعنوان "مخطط النظام الإجرامي الواضح المعالم المتكامل الحلقات الذي استهدف "الأيام" وآل باشراحيل"، والذي ختمه بحصر أولي للضرار على النحو التالي:
- تم تغييب "الأيام" السياسي حتى اليوم لمدة 283 يوماً بإجمالي 21 مليوناً و225 ألف نسخة.
- تم تغييب "الأيام الرياضي" حتى اليوم لمدة 120 يوماً بإجمالي 9 ملايين نسخة.
- بلغ إجمالي تغييب "الأيام" عن سوق الصحافة حوالي 30 مليوناً و225 ألف نسخة.
- تم تغييب الزميل هشام ونجليه الزميلين: هاني ومحمد هشام في الحجز مدة 37 يوماً، أي 888 ساعة.
- يتكبد الناشران هشام وتمام باشراحيل دفع التزامات كبيرة بصورة أجور وفواتير كهرباء وماء واتصالات وغيرها منذ توقف الصحيفة 5 مايو 2009.
- يتكبد الناشران هشام وتمام باشراحيل دفع مبالغ يعلم الله فداحتها جراء إعادة وضع كل شيء إلى حالته السابقة أو الطبيعية، فإن الزائر لمبنى "الأيام" وحوش مطبعتها لا يوقن أن الحقد الشخصي الدفين هو وراء كل ذلك.
هذه بعض الأضرار التي رصدها يابلي قبل عام، فما بالك بها اليوم.
حرصنا على إيراد هذه اللمحة العامة التي تفتقر إلى الكثير من المعلومات الدقيقة والتفاصيل المهمة، حتى نضع القارئ على حقيقة أن الحرب ضد "الأيام" لم تكن وليدة السنتين الماضيتين، بل كانت حرباً منهجية منظمة متنامية في سلسلة متصلة من الممارسات والخطابات تجسدت في 3 مراحل أساسية: مرحلة العنف اللفظي والحرب الكلامية، ومرحلة العنف الرمزي والمعارك القضائية، ومرحلة العنف المادي والحرب النظامية العسكرية والأمنية والهمجية الغاشمية التي استخدمت فيها جميع أصناف القوة والحرب كما عرفها الألماني كلوزفتز "هي عمل من أعمال العنف يهدف إلى إرغام الخصم على تنفيذ إرادة قوة اجتماعية".
"الأيام" بين استعماريين
ليست "الأيام" مجرد صحيفة أو مؤسسة إعلامية، بل هي ظاهرة اجتماعية ثقافية مدنية حداثية تنطوي على مجموعة من الأدوات والعلاقات والعناصر والقيم والممارسات والوظائف والأهداف، نشأت ونمت وازدهرت في سياق اجتماعي مختلف كليا عن السياق الحالي، تأسست عام 1958 في مدينة عدن المستعمرة الإنجليزية في إطار قواعد لعبة سياسية مدنية تحكمها القوانين والتشريعات النظم والقيم الاستعمارية الحديثة العقلانية الرشيدة، على يد مؤسسها محمد علي باشراحيل، الذي أنشأها اعتماداً على قواه الذاتية صحيفة مستقلة إخبارية ثقافية وطنية مقاومة بسلاح الكلمة والفكرة والحبر والقلم. على مدى قرابة عقد من السنين ازدهرت "الأيام"، واكتسبت الخبرة والمعرفة بممارسة المهنة الإعلامية، وترسخت مكانتها في عقول وأفئدة القراء كمثال للصحيفة المحترمة، التي حرصت على حمل الرسالة المهنية بشرف وأمانة وموضوعية وتجرد ومسؤولية.
ولأن القوى التي تسلمت أمر عدن والجنوب بعد رحيل الإنجليز تنتمي إلى الثقافة التقليدية أو "الأيديولوجيا الشمولية"، أجبرت "الأيام" على الصمت، وأجبرت ناشريها على الرحيل من عدن بعد "قرار إيقاف الصحف الصادرة أثناء الاستعمار البريطاني.. الذي جاء ضمن توجه شمولي سائد".
وبعد عام 1990، استأنفت "الأيام" الصدور في سياق مختلف، ولم يمضِ على صدورها سوى 4 سنوات حتى شنت الحرب على عدن والجنوب، حرب القوى التقليدية الشمالية التي لا تعرف الحداثة والمدنية والصحافة المستقلة، وفي 7/7/1994 ارتكبت تلك القوى جريمة "الإبادة الجماعية" بحق الدولة والشعب والجنوب الذي كان قد خبر وعرف وتطبع على قيم وتقاليد حداثية ومدنية منذ أكثر من 100 عام بفضل الاحتكاك الثقافي الحضاري والمدني بقوى الحداثة العالمية والإقليمية والعربية.
بعد عام 1994 خضعت عدن لهيمنة الاستعمار الداخلي القبلي التقليدي الذي قام بتدمير كل المؤسسات والأجهزة والبنى والعلاقات والقيم والرموز المدنية الحديثة، وأحل محلها مؤسساته التقليدية المتخلفة، وهذا هو منطق القوة والحرب (التي هي سياسة بوسائل أخرى)، وكل حرب تنطوي بالضرورة على جريمة إبادة جماعية، بل إن جريمة الإبادة الجماعية هي غاية ونتيجة كل حرب استعمارية خارجية كانت أم دخلية.
والإبادة الجماعية تعني "خطة منظمة مركبة من طائفة واسعة من الممارسات والأفعال المختلفة تستهدف الأسس الضرورية لحياة جماعة وطنية أو أثنية من خلال تحطيم المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيم والرموز والمشاعر الوطنية عند أفراد الجماعة، وتحطيم أمانهم الشخصي وحرياتهم وكرمتهم ومقدراتهم".
أو كما عرفتها الأمم المتحدة في 11/12/1946 بقرار رقم 96، "إن جريمة الإبادة لا تعني كما هو شائع المحو الكلي للجماعة بيولوجيا واجتماعيا، وإنما الحرمان من الحق في الوجود كجماعه مستقلة لها شخصيتها الاعتبارية المعترف بها أي كمؤسسة سياسية اجتماعية وثقافية ذات هوية محددة ومقدرة على الفعل واتخاذ القرار".
هكذا يمكن القول إن الاستعمار الإنجليزي حينما احتل عدن في 19 يناير 1839 والجنوب قد ارتكب جريمة إبادة جماعية بحق الجماعة المحلية التقليدية الممثلة بالسلطة العبدلية التي كانت قائمة حينها، واستبدل مؤسساتها التقليدية بمؤسساته الاستعمارية الحديثة، وهذا ما فعلته القوى التقليدية الشمالية في استعمارها الداخلي لعدن والجنوب بتدمير مؤسساتهما الحديثة والمدنية واستبدالها بالمؤسسات التقليدية المنتصرة في الحرب.
ولسنا بحاجة إلى المقارنة بين وضع القوى التي احتلت عدن عام 1994، ووضع عدن وصحيفة الأيام وناشريها، فحينما صدرت صحيفة الأيام في عدن 1958 كان الإمام أحمد (يطلي) رعاياه في الشمال بالقطران، وحينما كانت أسرة باشراحيل تنتقل بين عدن والعواصم الأوروبية والآسيوية، وتتقن اللغات العالمية وتقاوم الاستعمار الإنجليزي، كان الغزاة الجدد يحلمون برؤية ذيل حصان الإمام في صنعاء، ولا نقول ذلك من منطق العصبية الثقافية، بل نروي وقائع تاريخية وخبرات حياتية لا سبيل لإنكارها. كتبت الطبيبة الفرنسية فايان في كتابيها "كنت طبيبة في اليمن"، بالحرف الواحد "لو اختفت الحضارة الحديثة من على وجه الأرض لبقي الشاهد الوحيد عليها في اليمن المتوكلية صفيحة التنك".
ثمة فارق شاسع بين "الأيام" المدنية العدنية الجنوبية وبين قامعيها، فارق يساوي الفرق بين الصاروخ والجنبية، بين العلم والجهل، بين الحق والباطل، بين التوحش والتحضر، بين قوة العقل وقوة السيف، بين النور والظلام، بين الحرب والسلم، بين الوحدة بالقوة والوحدة بالتراضي.. هكذا كانت "الأيام" التي كافحت في سبيل أن تظل مؤسسة مهنية مستقلة تستمد سلطتها ونفوذها من قواها الذاتية وطاقاتها الإبداعية وشعبيتها الجماهيرية بين القراء.
وهي بذلك المثال الأبرز لمؤسسات المجتمع المدني الذي ينظم فيه الناس أنفسهم بحرية في جماعات ومؤسسات وروابط ومستويات متنوعة بهدف الضغط على السلطات السياسة من أجل تبني سياسات منسجمة مع مصالحها، وهي بذلك عكس مؤسسات القوى التقليدية المهيمنة التي تقوم على العصبية والغلبة والغنيمة، وهكذا فالمسألة ليست في إشكالية التنمية وقضاياها بالنسبه لنا، بل هي إشكالية تحول تاريخي لم ينجز، تحول من المجتمع التقليدي القائم على العصبيات والقيم البطريكية إلى المجتمع الحديث القائم على المؤسسات المدنية المستقلة التي تحكمها قيم وقواعد قانونية عقلانية عامة ومجردة تنطبق على جميع الناس بقدر متساوٍ ومتكافئ في الحقوق والوجبات والوصول إلى الفرص، بما يحفظ حرياتهم السياسية والمدنية وكرامتهم المادية والمعنوية، تجسيدا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص على "أن الناس ولدوا متساوين ويجب أن يتمتعوا بحقوق متساوية".
إن مأساة "الأيام" وناشريها تكمن في كونها مؤسسة مدنية تنتمي إلى مدينة عدن الجنوبية التي تم إخضاعها من قبل القوى الشمالية التقليدية بالقوة المسلحة، وبحكم منطق القوة الحربية العصبية، التي تقسم الناس إلى (نحن) و(هم)؛ المنتصر والمهزوم، الغالب والمغلوب، القوي والضعيف، الأصل والفرع، الأصلي والهامشي، الوحدوي والانفصالي، الشعب والشرذمة، ولا تعترف بوجود مجال محايد أو مختلف أو متعدد أو ممكن للحياة خارج هاتين الدائرتين المغلقين. ومن العصبية التقليدية ينتج الاستبداد والطغيان والعنف والحرب والدمار كما نشهده اليوم في ليبيا واليمن المحكومتين بالاستبداد.
والمستبد هو الحاكم الذي يحكم بسلطة اعتباطية مطلقة وقمعية فجة، وكما يقول الكواكبي في "طبائع الاستبداد"، "الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه والأنفة من قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق (المشتركة). والمستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا إرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، والاستبداد هو تصرف فرد أو جماعة في حقوق فرد أو جماعة بلا خوف ولا وازع من عقاب أو خوف من رادع".
والطغيان هو أعلى مراحل الاستبداد وأشدها بطشا، وهدف الطغيان الأول ليس ردع خصومه بل تدميرهم وإفناؤهم، إنه لا يكتفي بالهيمنة على الناس من الخارج، بل يريد السيطرة عليهم من الداخل، وهذه هي السادية كما عبر عنها ماركيز ساو، إذ إن السادي لا يكتفي بتعذيب الضحية وإفنائها، بل يريد امتلاكها وتحطيم إرادتها.
ألم يكن ما أصاب "الأيام" هو التعبير الأقصى لقسوة الاستبداد والطغيان، وإلا فما هي الخطورة التي كانت تمثلها صحيفة مستقلة، ليس لديها سوى الحبر والورق والكلمات وآلات الطباعة في منزل صغير من طابقين في الخليج الأمامي من مدينة كريتر الصامدة في قلب عدن وعمقها النابض؟
ما الذي يمكن أن تحمله هذه الحزمة من الأوراق من تهديد على كيان يتسلط على رقاب أكثر من 20 مليون رعوي، ويمتلك من العدة والعتاد الحربي ما يكفي لسحق 4 دول أو يزيد؟
وإذا ما حاولنا النظر إلى "الأيام" بالقياس إلى المخاطر والتهديدات الفعلية الأخرى التي يجب أن تشغل بال أي حاكم من الحكام، كالعصابات المسلحة وقطاع الطرق ومافيا الاختطاف، وتجار السلاح والقتلة ومحترفي الإجرام الذين يسرحون ويمرحون في طول وعرض هذه البلاد دون خوف من عقاب أو حساب.. يستحيل علينا فهم وتفسير منطق حرب السلطات ضد "الأيام"، إلا من حيث إن "الأيام" تعد نبتة غريبة في نظر الاستبداد والطغيان، لأنها المؤسسة الوحيدة التي صارعت ولا تزال في سبيل استقلاليتها وحريتها ومهنيتها ومدنيتها.
إننا هنا بإزاء صراع إرادتي قوة؛ إرادة تقليدية عسكرية عصبية استبدادية شمالية ترغب بإخضاع كل شيء تحت نفوذها وسيطرتها، وإرادة حداثية مدنية عقلانية ثقافية سلمية عدنية جنوبية ترغب أن تحتفظ بحريتها وكرامتها ومهنيتها، وتعيش في وطنها بسلام وأمان دون أن تدين بذلك لأي كائن كان، بل كحق أساسي وجوهري من حقوق الإنسان. هكذا يمكن لنا القول إن أسباب الحرب الناشئة بين سلطة الاستبداد والطغيان وبين "الأيام" ترجع إلى البون الشاسع بين نمطين للقيم والخبرات، بين أسلوبين للعيش والسلوك، بين إرادتين ورغبتين للقوة، بين مجالين للكينونة: النمط المدني العقلاني الإنساني الحداثي الثقافي المؤسسي العدني الجنوبي البحري اللانهائي التعددي الأريحي الانفتاحي الواسع الأفق.. والنمط التقليدي العصبوي العسكري الشمالي الجاهلي الشخصاني الجبلي الرعوي المغلق العنيف الأحادي الاستبدادي الطغياني. ومن ثم فإن أفق التفاهم بين هاذين النمطين ليست ممكنة على النحو الذي يمكن توقعه تقليديا، ذلك لأن الحاكم المستبد لا يفهم وليس بمقدوره أن يفهم منطق "الأيام" وشفرتها وحساسيتها وإرادتها ورغبتها وصمودها وصبرها وتحملها وعنادها ومقاومتها وقوتها وتضحياتها. فكل ما يعرفه بالخبرة وبالتجربة أنه ليس هناك من يجرؤ على رفض إرادته والخضوع لمشيئته بالترغيب أو الترهيب. إن ظاهرة صمود "الأيام" وثباتها بإزاء هذه الحرب البشعة وهذا التعذيب القاسي يعد بكل المقاييس نصرا معنويا ونبلاً متسامياً، ومجدا رفيعا ل"الأيام" وناشريها وللقيم التي ينافحون في سبيلها.
السؤال هو كم هي طاقة "الأيام" وباشراحيل على الصمود والتحمل؟
إن الأمر مرهون بمدى تفعيل التضامن المدني واستئناف المقاومة السلمية من جميع الفعاليات الاجتماعية والمنظمات الحقوقية الأهلية والإقليمية والعالمية للضغط على آخر الأئمة ليرخي قبضته الحديدية من على خناق "الأيام" وإطلاق سراحها وحريتها، وتعويضها عن كل الانتهاكات والأضرار الجسيمة التي لحقت بها.
كتب الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل في أواخر القرن التاسع عشر: "لقد ذهب الوقت الذي كان فيه من الضروري الدفاع عن (حرية الصحافة) بوصفها واحدة من الضمانات ضد الفساد والطغيان والاستبداد". أما نحن في عدن المحتلة من القوى التقليدية، فما زلنا نبحث في الشروط الأساسية لميلاد فجر الحرية، حرية الإنسان وحقوقهِ الأساسية: حق الحياة وحق العمل وحق التعبير وحق تقرير المصير وحق السيادة على الأرض وحق الحماية القانونية وغيرها من الحقوق الأولية الجوهرية التي جاءت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 الذي نصت مادته الأولى "يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء".
وفي المادة 21 "لكل شخص بالتساوي مع الآخرين، حق تقلد الوظائف العامة في بلده".
هذا فضلا عن الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وحق التفكير والتعبير والنشر والتنظيم. فأين نحن من حقوق الإنسان؟ وأين ما جرى ويجرى للأيام وناشريها من حقوق الإنسان الأساسية؟
من المؤكد أن "الأيام" كانت تقوم بوظيفة ما فوق صحيفة إعلامية على الأقل بالنسبة لعدد واسع من سكان الجنوب المسلوب، كانت بمثابة الوطن الافتراضي البديل عن الوطن المنهوب، وتشبع عندهم حاجة سيكولوجية وفطرية في الإحساس بالذاتية والهوية المتخيلة، وهي بذلك كانت تقوم بوظيفة مدنية في تفريغ حالة الاحتقان والإحباط والإحساس بالقهر والحرمان، كانت تخدم على نحو غير مباشر، لاشعورياً أغراض السياسة العامة للسلطات الحاكمة في امتصاص فعال لشحنات الغضب والعنف المتراكمة في القلوب والأذهان جراء الإحساس المتزايد عند معظم الجنوبيين بصدمة الحرب والاحتلال، وانسداد الأفق والسبل الممكنة للتعبير عن الذات وإسماع الآخر صوت الذات التواقة للاعتراف. ولو أن السلطات المهيمنة أدركت أو تخيلت مدى الآثار والأضرار المباشرة وغير المباشرة، الواعية والأوعية، التي تسببت بها حينما أقدمت على إخراس وخنق صوت الجنوب المدني الحميم بتلك الطريقة العنيفة الصادمة، لو أن السلطة أخضعت قراراً مثل هذا للتمحيص والتحليل العلمي السليم لما كان لها أن ترتكب هذه الجريمة الخطيرة والمركبة في بشاعتها، بل كانت ستعمل على تشجيع وتهيئة المناخ العام الذي من شأنه استمرار وازدهار صحيفة الأيام والصحف المستقلة، وإطلاق المجال لحرية التفكير والتعبير والنشر والشفافية كوصفة سحرية لتخفيض مستوى الاحتقان وتهيئة المناخات العقلانية للتفاهم والحوار.
إن خنق "الأيام" فضلاً عما تسبب به من أضرار جسيمة لأسرة "الأيام"، قد ألحق إهانة بالغة وتسبب في إحداث جرح معنوي عميق في الذاتية الاجتماعية المجروحة منذ حرب 1994، وكان أشبه بالتحدي المستبد الذي جعلهم يبحثون في كل السبل الممكنة للتعبير عن صوتهم والتنفيس عن إحباطهم وغضبهم عبر ومن خلل الانترنت والقنوات الفضائية والمنشورات والهاتف النقال والمحدثات الشفاهية أو بعض حالات لغة الأجساد والاتصال العنيف. فهل أدركت السلطات الأضرار الفادحة التي نجمت ولا تزال بسبب غياب "الأيام" وقمع الصحف المستقلة الأخرى كصحيفة الصباح وصحيفة الوطني، وقمع الحريات الصحفية والتنكيل بالصحفيين المستقلين في الشمال والجنوب؟
وختاماً: لأن "الأيام" كتابة، حروف ونصوص مرسومه على الورق، فليس بمقدور أحد على وجه الأرض إخفاؤها أو محوها، فهي موجودة في المكتبات والمنازل والمواقع والشبكات والأقمار الصناعية لغة عالمية، ورمزاً مدنيا عدنيا جنوبيا، والرموز خالدة لا تموت، وضربات السيف تمحى، أما ضربات القلم فهي آثار خالدة تؤكد حضورها الدائم في عالم المادة الجامدة، وبإمكان "الأيام" اليوم أن تفتخر وتقول: لقد ولدت ونميت وازدهرت وصرت مؤسسة مدنية حديثة، سيذهب الطغاة وكلابهم في ليل التاريخ، أما "الأيام" فستظل نوارة المكان والزمان، فهي ليست موجودة بعد في أيما مكان، بل موجودة أخيراً في كل مكان.
أما وقد أزفت ساعة الحرية والتحرير، وتهاوت عروش طغاة الاستبداد في تونس ومصر وليبيا، فبشر "الأيام" ببزوغ فجر الأنوار والازدهار، وسحقا لحثالات التاريخ وحراس الظلام.
أطلقوا "الأيام" فورا، وأعيدوا لها الاعتبار.
*عن صحيفة "النداء" اليمنية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.