- مرحبا.. عمرو .. أما زال عرض الفيلم قائما؟ - نعم عزيزي .. لا يزال مستمرا اليوم وغدا، واحتمال أن نمدده حتى السبت القادم. أشكرك.. ركبت برفقة صديقي - عبدالرحمن الباص المتجه لمدينة الشيخ عثمان، وكانت الساعة تشير للرابعة والنصف مساءاً. - لقد فاتنا العرض الأول لهذا اليوم ياعبده . - لا بأس..فعرض السابعة يرحب بنا. - برأيك.. هل يستحق الفيلم منا كل هذا الانتظار ؟! - كنت طوال أيامنا في القرية تحدثني عن مواعيده التي ستنتهي مع نهاية آخر أيام العيد، والذي لم ولن يحالفنا الحظ لحضوره.. - لكن ها هم قد أتاحوا لنا فرصة المشاهدة بعد أن مددوا العرض لإسبوع. - لا تقل لي إنهم مددوا العرض لأجلك ؟! - هههههه .. ليس لهذه الدرجة ياعبده! *** مرحبا.. إنها السابعة إلا دقيقتين .. من قاعة ألف ليلة وليلة في الشيخ عثمان، اقتطعنا بطاقتي الدخول ودلفنا. . كان عدد الحضور غفيرا حد اكتضاض القاعة، وبرغم أن العرض تجاوز فترة التمديد لأيام العرض المحددة. ها هي الكراسي ما زالت مزدحمة بالمتابعين! دقت الساعة السابعة وبدأ عرض الفيلم.. "10 أيام #قبل_الزفة" أول فيلم في تاريخ السينما اليمنية من إبداع المخرج اليمني الرائع #عمرو جمال. تدور أحداث الفيلم حول مأمون الشاب العدني الطموح الذي رمم ما خلفته الحرب من طموحات وأحلام في روحه المتهدمة، وكان تحديد موعد الزفاف بمحبوبته بعد السنوات الطويلة من الانتظار واللهفة الحدث الذي يتمحور الفيلم حوله. إنها ليلة العمر..! تفصله عنها عشرة أيام فقط.. لكنها لم تمر في ظرف لحظة. غير أن المخرج استطاع ببراعة وحرفية فنية عالية اختزالها لساعتين متواصلة لم يغمض المشاهد فيها طرفه، وهو يراها مليئة بالأحداث المبكية تارة والمضحكة تارة أخرى! عدن.. هي المحطة الفارقة في هذا العرض ، خرجت بلباسها البسيط من منازلها العتيقة في حواف مدينة كريتر بؤرة البركان ..لتمنح العالم صورة الجمال الأصدق بعنفوان الماضي، ووجه الأصالة الضارب في أعماق التاريخ.. كمدينة للنور صامدة مهما حاول الطغاة والمتسلطون تحجميها أو اطفاءها . مأمون.. الشاب الذي ترك ركن منزله لعمته المطلقة، وراح يبحث له عن شقة في حواري هذه المدينة وفوق جبالها؛ حاملا عفشه من مكان لآخر، ومن بقعة لأخرى. رحلة متعبة ومضنية سقط فيها عفشه ضحية لطلقات العيار الناري، وهو يصوب عليه من متسلطي إحدى الأراضي على نزلاء آخرين في تلك الأرض. وكل منهم يدعي أنها ملكه!! إنها إحدى مشاكل عدن المزمنة، التي وقفت الدولة تجاهها مكتوفة الأيدي! لم يغفل مخرج الفيلم أن يقتنص تلك الصورة لعدن الموبوءة بآفة بسط الأراضي! جرت العدسة نحو المنازل للحاق بمأمون وهو يبحث مع محبوبته عن شقة تستقر بها قلوبهم قبل أجسادهم المنهكة من عناء البحث. الشقة التي بات من المستحيل أن تجدها متاحة في هذه المدينة مع ازدياد أعداد النازحين، وجشع المستثمرين بالعقار الذي لا يعرف طريق الرأفة والشفقة، أو تقدير معاناة الناس ومراعاة أحوالهم. "رشا" .. نجمة الفيلم وصاحبة الحضور الأبرز ، محبوبة مأمون ورفيقة المستقبل الغامض أمامهما. تخوض حربا شرسة مع أهلها الذين أرادوا تزويجها بابن عم والدها المقوتي في أحد أكبر أسواق القات، والذي منحهم أحد منازله ليسكنوا فيه بعد أن دمرت الحرب بيتهم ومأواهم. كانت مقايضته فحواها : إن لم تمنحوني ابنتكم فابحثوا لكم عن بيت يؤويكم، وهذا آخر مالدي! مأمون .. مع اقتراب موعد الزفة توالت على رأسه النكبات، والديون، ودخل المحاكم التي كانت قضيته فيها مدبرة هدفا منهم في إيقاعه في وحل العجز ونفاذ الإمكانيات. لوهلة وقف مكتوف الأيدي.. أمام توبيخ والده الذي كان يحذره من تلك المشاريع الصغيرة التي حاول منها ادخار شيء لنفسه .. وباءت مؤخرا بالفشل..! ورفضه سابقا لوظيفة حكومية كانت ستسد له اليوم حاجته . صاح في وجه والده متذمرا: عن أي راتب تتحدث " يابه"؟! و أنت شهر تستلمه وثلاثة شهور غائب وغيرنا الكثير.. من لم يروه من سنوات.. ! يفقد أعصابه أمام والده، فيضطر والده لصفعه أمام أمه و إخوته .. الأمر الذي جعله يخرج خائرا مهزوماً ، إلى غير وجهة يشعر بالضياع. يقف بين أهله ومحبوبته، ووطن لم يجد فيه موضع قدم يضع فيه حلم السنين الآزفة ووجع الانتظار الطويل!! يصيح في وجهها أن تذهب لتعيش حياتها، فليس بوسعه أن يتحمل ذنبها، وتسجيل مزيد من رصيد الشقاء والخيبات!!! أثمرت من عيونها تلك الصدمة وقد أحدثت ندبة مجلجلة في نفسها، وأي خيبة ستراها أعظم من تخلي الأنفاس عن وطن ما كان لك إلا الملجأ الوحيد رغم قساوته وصلفه ؟! جمعت حطام نفسها وعادت للمنزل باكية، ليستغل ضعفها هناك ، بين إلحاح الأم الشديد، وتهديد الأب المتكرر بالرضوخ لأمر الزواج، على أن يبيتوا جميعا في الشارع! أخيرا انتزعوا موافقتها! وذهب والدها مسرعا لجلب المأذون للعقد، خوفا من تراجعها. تأهب المنزل للفرحة المصطنعة بعد أن وصل الجميع، وقبل أن يطُلب المأذون بطاقتها، كانت تمسك بذلك الخاتم الأصفر لانتزاعه من يدها ، خاتم لم يكن قطعة ذهبية دائرية؛ بل مسيرة عمر من الكفاح والذكريات والصبر. كان غاليا عليها لدرجة أنه يعز عليها أن ترميه في لحظة لسلة المهملات. تركته في مكانه واحتزمت برباطة جأشها، وعزمت ألا تقبل..! لمست أن في تلك اللحظة التي قد يشار للبعض أنها النهاية الحاملة لموعد الاستسلام! قد تكون في الحقيقة هي صوت الانطلاقة التي فيها انتزاع الفرص الحقيقية. وحده التسلح بالإيمان الصادق هو ما يقي الإنسان من السقوط في براثن اليأس والاحباط وإن جابهته كل هذه الحروب والمصاعب. قررت رشا الهروب أخيرا من وراء المنزل دون أن يشعر أهلها، وقد استغلت انشداههم عنها بالتحضير لعقد القران ونفذت خطتها. في اللحظة الحاسمة بالنسبة إليهم نادوا على الضحية ليقودوها ذليلة صاغرة إلى حضن الجلاد لكنهم لم يجدوا لها أثرا؟! على إثر ذلك الموقف الغير متوقع انفجر فيهم ذلك الرجل السيء مزمجرا بكل صلف ووقاحة : أخرجوا من بيتي قبل مغيب الشمس. كان سيئا للحد الذي وقفت في تلك اللحظة حائرا أن كيف لإنسان أن يقبل أن يمنح أحد فلذات أكباده طمعا في مال أو جاه وهو يدرك أنه عرض دنيوي زائل لا يستحق أبدا منه هذه المقايضة ؟! لكن.. لربما كان الرصيف، وخشية المبيت عليه ما أعمى بصائر قلوبهم. ولكن رغم ذلك. . فهو لا يبرر.. لا يبرر أبدا! خرجوا بحثا عنها.. مأمون هو الآخر لا يدري أي وجهة يوليها بعد تخليه عنها؟! إلا أن حديث والده المطمئن كان الدافع الذي شد من أزره وهو يربت على كتفه : " روح لها يا بني.. اللي يحب يسامح". مضى جرياً بابتسامة ناصعة يبحث عنها، كان الوحيد الذي يعرف أنه سيجدها. وهل غيره منزلهم القديم الذي هدمته الحرب ؛ إلا غرفة صغيرة أسكنت ضجيج قلبها من لحاق أهلها وشبح ابن عم والدها الأسود سيؤويها؟! لقد وجدها أخيرا.. اختلطت مشاعر الحزن والفرح في اليوم الذي كان يجب فيه أن يكون الزفاف!! اتفقا على إقامة الزفة في منزل بسيط كان أبعد عروضهم المتاحة فيما قبل، لقد، اتخذاه اليوم مأوى وسكنا لهم في رأس جبل مطل على فوهة البركان .. لا خيار في أيديهم افضل من ذلك..! غرفة لهم وغرفة لأهلها حتى فرج الله..! سكنت البهجة أخيرا نفوسهم، وعزفت الفرحة ألحانها وقد اكتست المدينة بالمرح المفعم بالبساطة ورقيها الذي لا يضاهى!! تبادل الجميع شعور الغبطة بليلة عمر شجية بأضواءها، شجية بأهازيجها على حواف تلك المنازل العامرة بالحب والوئام. كانت رسالة صادقة حملت من النبل والتكاتف والأمل الشيء الكبير.. من عدسة فيلم التقط صورة لواقع مدينة ، أضناني فيها السؤال كثيرا ؟! أن كيف لها أن تتحمل كل هذا الوجع ..هذا التدمير ..هذا الخذلان.. وتصمت..؟! لأستطرد بأنفاسي الجواب لاحقا من وميض تلك الشاشة العظيمة، وقد نقلت حقيقة صبر أبنائها وتراحمهم، الذين وإن ألقت عليهم الفتن حابلها وزاحمتهم أيادي الشر فيها تراهم اليد الحانية فيما بينهم والمؤملة بالانفراجة من الله ، مهما طالت ليالي البؤس والحرمان. عدن 7/9/2018 #ناجي_عطية #قبل_الزفة