كان الأستاذ ناجي عافاه الله قريبا من مرؤوسيه .. واحدا منهم لا يتعالى عليهم وكان يستمع لمشاكلهم حتى الخاصة منها ويساعدهم في حلها. ولكن لا يعجبه المزايدة والشطح والحماس الزائد الذي سرعان ما يبرد ، فهو يقدر الواقع الذي يعيش فيه ويعمل فيه فيعمل على تطوير العمل التربوي والتعليمي بهدوء وبخطوات ثابتة وناجحة ومتوازنة، لاتعجبه الشكليات ولا الاستعراضات لا مع رؤسائه ولا مع مرؤوسيه ،كان كل يوم يمر علينا في الثانوية بكل هدوء وتواضع يمر يصافحنا جميعاً حتى إذا كنا معه قبل ساعات، ولا يظهر سلطانه ومسؤوليته، لا علينا ولا على المدرسة ولا على إدارتها مع أن الجميع يقدر ذلك ، فهو يوصل رسالته وسياسته وتوجيهاته التربوية عبر المدراء بطريقته بعيدا عن الضجيج . وعندما قام أحد زملائنا بالمدرسة بتلقيب كل المدرسين من باب المزح والتفكه والدعابة ، أعطى للأستاذ ناجي أسوأ لقب وكان الأستاذ يضحك من هذا اللقب ويتقبله بروح رياضية وتربوية ولم أره قط يتضايق منه فهو الذي تشرف به لقبه ! وفي مرة من المرات حدث أن طالبا مراهقا أخذ من أحد الصفوف الدراسية بلاك كهرباء او منظم مروحة ، فتم اكتشافه فواجه الطالب غضبا من الإدارة ومن المعلمين، فتم الاتفاق أن تنزل بالطالب أشد عقوبة وأن يعلن عن اسمه وجرمه في الطابور الصباحي على رؤوس الأشهاد ليكون عبرة لمن اعتبر من الطلاب الآخرين، وان يطرد من المدرسة ، ولم يبق إلا أن يمر الأستاذ ناجي مساء فيطرح عليه الموضوع وتؤخذ موافقته ويوقع على حكم الإعدام ذاك ، ولكنه فاجأ الجميع وقال هذه المدرسة تخرج شبابا صالحين ولا تخرج لصوصا ومنحرفين، وأن عملكم هذا سيجعل هذا الطالب الذي أخطأ، ينحرف ويحرم من المدرسة، وسوف تتشوه سمعته ، وسمعة أهله وسوف ينبذه المجتمع وقد يتمادى في الانحراف وقد يتحول إلى قاتل يوما ما ، وهذا لا يليق بنا ولا به فنحن مؤسسة تربوية أولا وأخيرا فاستروا على ابنكم ونبهوه إلى خطأه، ووجهوه من غير ان يعلم أحد من زملائه او من المواطنين. وبعد ذلك حقا وجدنا الطالب وقد صلح امره وقدر تعامل المدرسة معه بهذه الروح التربوية ، وغدا من أحسن الطلاب أخلاقا. وفي مرة من المرات مررنا انا والأستاذ ناجي على مستشفى حبيل الريدة فاستقبلنا الأطباء والمساعدون الصحيون والممرضات بكل ترحاب ، وقد كان لديهم مشروع داخلي تطوعي في المستشفى يريدون إنجازه وأرادوا منا أن ندعم ذلك المشروع . وجهوا كلامهم إلى الأستاذ ناجي ، وقالوا إن الأستاذ الدعري مدير الثانوية قد تبرع لنا بكبت فبماذا ستتبرع لنا انت يا أستاذ ناجي؟ فرد على البداهة ليس لدي شيء حتى أتبرع به، وأما الكبت الذي اعطاكم اياه الدعري فإنني سوف اخصم قيمته من راتبه ، لأن ذلك ملك المدرسة وليس ملكه . قال ذلك من باب توجيه رسالة حازمة تتعلق بالملكية العامة ومن باب تخلصه من الحرج ، لكنه في الواقع لم يعتب على مدير المدرسة أو يحاسبه فكان يكفي ذلك الموقف الطريف الذي حدث. وكلاهما تربويان عريقان وحريصان أقصد الأستاذ ناجي والأستاذ الدعري ولكن لكل شخصيته وطريقته وكارزميته الخاصة ، عافاهما الله معا . وبين حين وآخر كان يصطحبنا معه إلى منزله فنتغدا عنده ، كان يقدر حياتنا العزوبية بعيدا عن أهلنا ، وحين يأتي مدرس جديد كان يحتفي به ويعزمه ويخزنه على حسابه أو من حائطه . ثم هو كان لايغيب عنا يوما إلا فيما ندر ولسبب معقول ومقبول ، فما أن ينتهي الدوام ويمر وقت الظهر حتى يأتي بسيارته الشهيرة المتواضعة التي صبر عليها كثيرا وصبرت عليه ، وظلت معه سنوات طويلة ، وكان يقف بها رأس تل أو فوق مرتفع صغير لكي يهرول بها عند العودة فتقرع وتنهض ، وكانت أسلاكها ظاهرة مبثوثة فيشبكها بطريقة آلية تلقائية ، ثم يهرول بها ويذهب حيث يشاء ، كان يذكرني أسلوبه هذا بعبارة قالها عمرو بن العاص رضي الله عنه ، فقد كان يركب بغلة عرجا عجفاء ، فقيل له أنت أمير مصر وتركب هذة البغلة العرجا؟ فقال : (لا أمل راحلتي ماحملت رجلي) فكانت هذة مقولة خالدة في الزهد والتواضع . وحين يهل علينا رمضان ونحن في موسم تدريس لم نكن نجعل هذا الشهر الكريم إجازة كما يحدث في عهدنا هذا ، بل كنا نعمل إلى قبيل العيد ، وكان الأستاذ يبعث بأولاده كل ليلة قبيل الفطور إلى المدرسة حاملين فطورا لنا من فطوره مع أن منزله بعيد نسبيا من المدرسة. وكانت تأتينا مزودات أخرى من أماكن مختلفة سميناها قوافل ، كانت تأتي بين يوم وآخر تناوبا بينها، ولكن مزودة الأستاذ لم تنقطع خلال الشهر كله في كل سنة ولعلها استمرت من بعدي سنوات ولعلها لاتزال حتى اليوم . ولأن الأستاذ ناجي كان جاداً ومجوداً في عمله فإنه كذلك يحب الجادين المجودين في عملهم ويشجع ذوي المواهب والمهارات طلابا كانوا او معلمين، ويتعامل معهم بطريقة استثنائية فلا زلت اذكر في أول عام علمت فيه في حبيل الريدة ، حين كتبت نشيدا طلابياً تربوياً للطلاب لينشدوه في أحد احتفالات المدرسة ، فحين سمع الأستاذ ناجي هذا النشيد أثناء الحفل قال هذه كلمات شاعر تربوي ، لأنها كانت خفيفة وسهلة وتربوية ، ولم يعلم أنها لي وحين انتهى التلاميذ من أداء النشيد ذكر مقدم الحفل أنها من كلماتي. فسر الأستاذ ناجي بهذا النشيد وأخذ نسخة منه واحتفظ به أكثر من احتفاظي به ، وحين زار حالمين الأخ راجح صالح ناجي عضو مجلس الشعب الأعلى وكان ممثلا لمركز حالمين في المجلس أعطاه الأستاذ هذه القصيدة النشيد، فنشرها مشكورا في صحيفة (صوت العمال). نحن طلائع علي عنتر نمشي وراء القائد الأجدر هذا كان مطلع القصيدة النشيد. وقد لحنه للطلاب الأستاذ عبدالحكيم شائف أعانه الله وعافاه. وإلى حلقة قادمة بعون الله تعالى. د عبده يحيى الدباني.