منذُ توفت اُمي ووالدي يعاني من عدم إستقرار في الحياة، بعد عام من غيابها فَقد جزءاً من بصره، اُصيب بمرض الفشل الكلوي نتيجة الفجيعة ، ودع كثيراً من وزنه فأصبح مُجرد جذع نخلة خاوية ، غادرت اُمي فغادر معها والدي ، الفرق أنها أختفت ، زُفت إلى الأخرة ووالدي أختفت سعادته ، زَفهُ الضياع إلى خانات الظلام والوحدة،حين نظرتُ إليه رأيتُ ملامحه تغيرت تغيراً كبيراً وكأن وجهه اُصيب بمرض الجُدري ، لم أستحملُ كل هذا ، وضعتُ عليه مُقترحٍ جميلٍ قلتُ له : سأبحثُ لك عن شريكة حياة كي تنتشلك من كل هذا ولكي تعالجك من جميع الأمراض التي داهمت جسدك نتيجة غياب اُمي .. هَز رأسه موافقاً ثم قال: إذا رأيت اُنثى تشبه اُمك سأدفعُ مهرها جِبالاً من الذهب ، سأبيعُ جميع أملاكي ، حتى لو وصل بي الحال إلى بيع ملابسي وبدلة عُرسي القديمة الموجودة في الخزانة، التي كلما أشتقتُ لوالدتك أذهب نحو الدولاب أفتحه بِكل شوق ثم أحتضنها، البدلة التي عندما أراني فقدتُ بَصري أهرعُ نحوها ، أشمها فأعود بصيرا .! حينها ذرفتُ دموعي بغزارة دون شعور ، لم أكن أعلم بأن والدي يحبُ اُمي هذا الحُب الذي لو وزعته على جميع عُشاق الكوكب لفاض حُب أبي ، تارةً كان يحدثني والتنهيدة تسبق كل نبرة، واُخرى الغُصة تمنع كل نبرة من الخروج نحوي . بَحثتُ عن شريكة حياة لوالدي بعد سنوات من مغادرة والدتي للحياة ، اُعجب بها بشدة ، تزوج بها لكن الفجيعة التي نَخرت جسد والدي أن الزوجة لم تكن مثل اُمي، لم يرى فيها الحُب والحنان والخوف عليه، لم تكرمه بالقُبل ولم تضع الخُبز إلى فَمه، لم تبتسم في وجهه ولم تقول له أنت كل شيء في حياتي مما جعل والدي يُصاب باليأس والإحباط مما زاد الطين بلة، ليس هذا فحسب بل أتت المشاكل إلى دارنا فأصبح منزلنا مليء بالضجيج والصراخ، كادت أن تخرب العائلة برمتها ، كانت تريد أن تستخدم اخواني عبيداً لها، تَحولت إلى شيطانة كبيرة، كانت تأمر وتنهي، تجبرنا على أن نأكل وجبة واحدة كل يوم وحين يأتي موعد النُعاس تفرش لنا الكراتين المُتسخة ، ننام في العراء فتأكل أجسادنا البرودة فكانت النتيجة وفاة أخي الذي يبلغُ من العُمر عامين ، وحين قُمتُ بتحليل الوفاة المُفاجئة أخبرني الطبيب أن سببها البرودة الزائدة وأنها أثرت على الدم فأصبح لا مادة سائلة فأصبته جَلطة. أخي الآخر اُصيب بسوء التغذية نتيجة شحة الغذاء فأصبح بين الحياة والموت، لم يستحمل أبي كل العنجهية التي تمارسها زوجته بحق أطفاله ، أخذ قراره إحتراماً للأمانة التي تركتها اُمي الراحلة فقام بطلاقها فوراً ، عادت إلى بيت والدها بعد سنة منذُ تزوجت أبي فظل والدي وحيداً بدون حبيبة كجُثة في المقبرة، أحب الوحدة وعشق أطفاله حد الثمالة، عشقهم كما كان يعشق اُمي، حافظ عليهم من كل شائبة، كان يحميهم من نسمات الهواء الباردة ومن كل حشرة . عاش أربع سنوات وحيداً بعد أن طلق زوجته الثانية ، فكرتُ قليلاً ثم همستُ له بكلمتين، أخبرته بأن هُناك امرأة جميلة مات زوجها قبل سنوات إثر قذيفة اُطلقت من التبة المحاذية لمنزلهم فسكنت جسد زوجها ففارق الحياة فوراً، أعترض على فكرتي تلك ، صَرخ صرخة مدوية حتى أهتز سطح منزلنا ، حتى تساقطت حُفنات التُراب إلى كُلِ غُرفة، أخبرني بأنه لم يعد يريد امرأة تشاركه الحياة، إن تلك الشيطانة جعلته يكره الزواج مرة ثانية ، قام بحفر ثلاثة آبار إرتوازية في الوادي القريب من منزلنا ، غَرس الأشجار والزَرع وشجرة من كُلِ فاكهة، أهتم بالحقل كثيراً حتى أصبح حديقة يأتوا إليه الزائرين من كلِ حدبٍ وصوب للإستمتاع بذلك المنظر ولإستنشاق هواء نقي، كان يحب الحَقل ويقبلُ الزرع وكل فاكهة وحين سألته لماذا تنثر قُبلاتك للأشجار والزرع بكل إسراف ، كان رده غريبا، قال لي : بأن اُمي كانت خضراء كهذا الزرع، وجهها ممتليء بالبشاشة كهؤلاء السنابل وعينيها لذيذتان ويشير بأصابعه ويقول كتلك الفاكهتان، ثم يقول : كانت حديقة ، كانت حديقة لا امرأة فحسب ، كان يرتلُ اسم اُمي في ذلك الحقل عند كل صباح وعند كل ظهيرة وعصرية وفي كُل مساء وعلى صدأ صوته ترقصُ السنابل ويتمايل الزرع وتصفق الأغصان صفقة صفقة. 16-11-2020 وثيق القاضي.