ملف الفساد هو أحد أهم وأخطر الملفات في البلد، هذا إذا لم يكن أهمها وأخطرها. وأهميته وخطورته تفرضان عدم تأجيله لحين إحراز تقدّم في ملفات أخرى، فلا يجب أن يشغل التركيز على إنجاح مؤتمر الحوار عن مواجهة الفساد. فمواجهة الفساد أصبحت قرارا مصيريا، ويجب أن يتخذ فورا وبقوة وبجدية كاملة. ما يجب أن تتوجه إليه فورا الإرادة السياسية والجهود الحكومية والرسمية، هو مواجهة آفة الفساد، هذه الآفة التي انتشرت في البلد حتى أعطبت كافة مناحي حياتنا، وهي أحد أهم مسببات مختلف المشكلات التي يعاني منها البلد. هذه الآفة هي ما يسبب الويلات لنا جميعا، ويعاني منها ومن آثارها كل فرد منا. الفساد دمرنا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فقد هدد البلد أرضا، وكان المسبب الرئيسي في سعي البعض للاستقلال بذاتهم جنوبا، ومؤشرات السعي ذاته بدأت تظهر تهاميا. وهدد البلد دولة وكان من أهم مسببات الحروب جنوبا وشمالا ووسطا، وأهم مسببات أعمال التمرد والصراعات مع العديد من أبناء الوطن أفرادا وجماعات وكيانات. الفساد هدد البلد اقتصادا، وأصبحت الموارد المتاحة للبلد لا تفعل الأثر المفترض بها، ولا نصفه ولا ربعه، ولا حتى عُشره إذا ما أخذنا في الاعتبار الأثر الائتماني لما ينهب من مواردنا، والذي يتمثل بمعكوس نسبة الاحتياطي القانوني التي هي في اليمن 20%، أي أن تعطيل ريال واحد يعني إضاعة فرص اقتصادية مباشرة ب20 ريالا، وتعطيل مليون يعني إضاعة فرص اقتصادية مباشرة ب20 مليون ريال، وتعطيل مليار يعني إضاعة فرص اقتصادية مباشرة ب20 مليارا من الريالات. الفساد هدد البلد مؤسسيا، وأصبحت كل مؤسسات البلد معطوبة، ولا تزيد عن كونها بؤراً لنهب المال العام وللعبث بالنظام العام، ولا تؤدي من الدور المطلوب منها إلا القليل. الفساد هدد البلد مجتمعيا، وحوّلنا إلى مجتمع من الفقراء والمعوزين والمرضى والجهال، ودفع ببعضنا للتخلي عن فلذات أكبادهم ورميهم بمئات الآلاف في "الجولات" أو إلى خارج البلد، ودفع بالبعض ليمثلوا ظاهرة مخجلة هي ظاهرة "الزواج السياحي". ووصل الأمر إلى أن يتصرف فينا من استحوذوا على مقدرات وأموال البلد بطريق الفساد، وذلك للعبث بأمننا وسلمنا الاجتماعي، بل وتحويلنا الى بلد من "المرتزقة" نقاتل كل يوم في مكان، فمن أفغانستان وحتى سوريا. الفساد هو ما أوصل البلد إلى ما وصل إليه من مشكلات ومعضلات وعقبات في كل شؤونه. وليجد البلد نفسه في مفرق حرج. وهذا المفرق الحرج كان البلد قد وصله بفعل ممارسات الفساد التي تمت على مدى عقود، لا زالت تمارس وبنفس الوتيرة حتى الآن. وكل المشكلات المتولدة عن ذلك لا زالت على حالها، لم تعالج ولم تحجّم، وعما قريب سيضاف إليها مشكلات إضافية ليست بالهيّنة، فالمؤشرات تؤكد أن عدداً غير قليل من المغتربين في السعودية سيعودون الى بلدهم، وذلك سيزيد من مشكلات البلد، من بطالة الى تعليم الى سكن وغيرها. وما ستفرضه معالجة ملفات الماضي من تكاليف ليس بالهين، وسيزيد من مشكلات البلد كذلك. وبالفعل البلد بكامله، قيادة وشعبا، حكومة ومواطنين، في مفرق حرج لم يترك لنا الفساد فيه إلا خيارين؛ فإما أن يستمر الفساد أو أن يستمر البلد. الوضع الذي أوصلنا إليه الفساد يحتم على الجميع، وفي مقدمتهم الإرادة السياسية، أن تنظر إلى ملف الفساد نظرة جديدة، نظرة تقوم على التجريم الجسيم لممارسات الفساد. ويجب على فخامة الرئيس هادي أن "يشدّ" على الجهات الرسمية المعنية بمواجهة الفساد، من هيئة مكافحة الفساد، إلى جهاز الرقابة والمحاسبة، إلى نيابات الأموال العامة، إلى لجنة المناقصات، إلى هيئة المواصفات والمقاييس، ويجب إخراج المحاكم الإدارية إلى الواقع، وأن يلزم هذه الجهات بأن تقف أمام مسؤولياتها وقفة بحجم خطورة هذا الملف. الفساد أصبح مهدّداً جدياً للبلد برمته، أرضا ودولة ومجتمعا وأفرادا وكيانات واقتصادا واجتماعا وأمنا وقيما وخدماتيا... ويجب أن يوجه فخامة الرئيس هادي بأن توضع الآلية التي تكون بموجبها مواجهة الفساد مهمة من مهام الأمن القومي للبلد.