في شتاء 1999 لاحظ حراس الحدود اليمنية – السعودية ان قطعاناً من البغال كانت تدخل الى المملكة عبر حدود مدينة الملاحيظ من دون دليل او مرافق. وبعد ان تطاردها سيارات الحرس داخل الصحراء، كانت تعثر على اسلحة ومتفجرات محمولة فوق ظهورها ومغلفة ببضاعة تمويهية كالاقمشة وحشائش القات. واستغرب الحرس اثناء عمليات الملاحقة باصرار البغال على الجري بسرعة في اتجاه مزرعة مهجورة عثر في داخلها على كميات من الشعير ودلاء الماء. ثم تبين للسلطات السعودية ان البغال كانت تحرم من العلف والماء لمدة اسبوع تقريبا قبل ان يقودها اصحابها من اليمن الى داخل السعودية. وعلى الحدود يتركونها تجري وحيدة في اتجاه تلك المزرعة المهجورة. وعندما تعتاد البغال على سلوك طريق وعرة يقودها الى المزرعة، تصبح مثل "كلب بافلوف" مسيّرة بدافع الترابط في الذاكرة. وهكذا يصل البغل الى الهدف من دون صاحبه. فاذا حدث ونجحت عملية التهريب تكون الاسلحة قد نقلت الى عناصر "القاعدة" داخل المملكة. واذا حدث العكس تتم المصادرة في معزل عن الفاعلين. ولم تكن تلك الحيلة سوى واحدة من سلسلة حيل مفتعلة مارستها عناصر "القاعدة" بهدف تهريب الاسلحة والمتفجرات من اليمن الى السعودية. وذكرت الصحف المحلية ان عمليات تهريب الاسلحة لم تقتصر على استخدام الشريط الحدودي الممتد على مسافة 1500 كلم، وانما تعدتها الى المرافق البحرية ايضا. ففي شهر كانون الثاني 1998 احتجز خفر السواحل السعودية مركباً متوجها نحو مرفأ جدة في مهمة سرية تقضي باطلاق صاروخ على مبنى القنصلية الاميركية. واعترف قائد العملية عبد الرحمن النشيري بالتخطيط لضرب القنصلية من مسافة قريبة بصواريخ مضادة للدروع كان ينقلها في قعر المركب. كما اعترف بأسماء المتعاونين معه داخل المملكة فاذا بمداهمات وزارة الداخلية تعتقل تسعمئة نفر. لمواجهة تلك العمليات المتنامية، اضطر وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز، الى توسيع حجم الدوائر المسؤولة عن مكافحة الارهاب واحداث اختراقات في صفوف "القاعدة". ولم يكتف بتسليط حملة الملاحقة على المدن الكبرى مثل الرياضوجدة ومكة المكرمة والخبر، وانما نشر عناصره في الارياف النائية حيث لجأ المتمردون واخفوا اسلحتهم وذخائرهم. وقد ساعدته هذه الخطة الامنية على اجهاض عشرات العمليات، واصطياد مئات الخارجين على القانون. وفي مطلع هذا الشهر اعلن اللواء منصور التركي، عن اكتشاف صناديق اسلحة اخفتها شبكة تنظيم "القاعدة" داخل استراحة ريفية تبعد عن الرياض قرابة مئة كيلومتر. وفي تطور لافت ظهرت محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية الامير محمد بن نايف، كخطوة مفاجئة لم يحسب لها حساب. خصوصا بعدما كشف "تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب" عن دوره في اعداد الانتحاري عبدالله عسيري وارساله من اليمن الى جدة في مهمة بالغة الخطورة. وقد دلت هذه الحادثة على ان "القاعدة" تملك في اليمن مختبرات وتقنيات متطورة. والدليل ان الانتحاري تمكن من تخطي كل حواجز التفتيش في مطار نجرانوجدة قبل ان يفجر نفسه في مكتب الامير. والثابت انه كان يخبىء قنبلة في امعائه بحجم مئة غرام، جرى تفجيرها من الخارج بواسطة هاتف جوال. وتبين من ملف التحقيق ان عبارة الاعلان عن "استعداده لاقناع رفاقه المتشددين بالعدول عن مسارهم" كانت بمثابة الرمز المشفّر واشارة التفجير. وقبل شهرين اعلنت السعودية عن اكتشاف خلية تابعة ل"القاعدة" تضم بين عناصرها مهندسين وحملة شهادات دكتوراه وماجستير. حتى مطلع هذا الاسبوع كانت معركة الدولة اليمنية مع الحوثيين محصورة داخل مناطق معينة بعيدة عن حدود السعودية. وفجأة، تسللت عناصر مسلحة من داخل اليمن الى موقع "جبل دخان" داخل الاراضي السعودية في منطقة جازان، وبادرت باطلاق النار على دوريات حرس الحدود، قبل ان يعلن المكتب الاعلامي للحوثيين في اليمن مسؤوليته عن الحادث. وفسر المراقبون الاعلان بأنه اقرار بالتنسيق مع قيادة الحوثيين بزعامة عبد الملك الحوثي، وشهادة بتبني العملية. ثم صدر بيان آخر عن مكتب الاعلام يزعم ان المقاتلين تمكنوا من الاستيلاء على "جبل دخان" الحدودي. واعتبرت الرياض ان هذا الحادث المفتعل هو بداية عمليات تسلل لا يجوز السكوت عنها. لذلك ردت على الفور بشن هجوم مضاد ايدته كل الدول العربية تقريبا. وعلى الرغم من التحفظ الذي اظهرته ايران على لسان وزير خارجيتها، فقد ايدت سوريا حق المملكة المشروع في الدفاع عن سيادتها وسلامة اراضيها. ولكنها تمنت ان يصار الى احتواء هذه الازمة بالسرعة الممكنة حرصا على الامن والاستقرار في المنطقة. ومع ان ايران دافعت عن حقها الجغرافي في التدخل بشؤون العراق ومستقبله السياسي، الا ان الوزير منوشهر متكي، حذر من التدخل في شؤون اليمن الداخلية. وحجته ان اليمن يواجه ثلاث مشاكل هي: ارهاب "القاعدة" التي تريد جعل اليمن محور نشاطها، والحركات الاستقلالية في عدن، والعلاقات بين الحكومة والشيعة. وعلقت بعض صحف الخليج على موقف الوزير متكي بالقول ان بلاده لم تسمح حتى للاصلاحيين بالتظاهر، وان تأييده شيعة اليمن ضد دولتهم ليس اكثر من تحريض ساخر يشجعهم على الاستقواء بالخارج وامتشاق سيف المذهبية. ويستدل من تصاريح الامير خالد بن سلطان، مساعد وزير الدفاع، والمشرف على منطقة العمليات العسكرية، ان مشكلة التسلل عبر الحدود قد حسمت، ولكن نتائجها الانسانية والامنية لم تنتهِ بعد. والسبب ان محافظة الحرث تعرضت لنزوح شامل بسبب تصنيفها منطقة محظورة. كذلك اقفلت المدارس في 240 قرية تقريباً، واستعيض عن منازل النازحين بالخيم المنصوبة داخل المناطق الآمنة. يميل المحللون السياسيون الى الاعتقاد بان طهران هي التي شجعت عبد الملك الحوثي على القيام بالخطوة الاستفزازية بهدف احراج السعودية ودفعها الى مطاردة أنصاره. ويبدو ان هذا العمل كان مخططا له منذ وقت طويل، بدليل ان قوات المملكة عثرت على كميات ضخمة من الاسلحة المخبأة داخل مواقع يمنية خلف تخوم البلدين. وفي تقدير هؤلاء المحللين ان ايران توقعت إطالة فترة المواجهة بحيث تنشغل السعودية بحرب استنزاف طويلة، تماماً مثلما انشغل جمال عبد الناصر بحرب اليمن عقب انقلاب 1962. وفي حساب طهران ان مشاغل الحرب على الحدود الشرقية الجنوبية للمملكة سيقيد تحركاتها في البلدان الاخرى مثل فلسطين ولبنان والعراق، الامر الذي يعطي طهران دوراً أكبر في المنطقة. المستفيد الاول، حسب الصحف الاوروبية، من صدامات الحدود، هو الرئيس علي عبدالله صالح. والسبب أن وسائل الاعلام العربية والاجنبية أغفلت نزاعه مع الحوثيين وركّزت في نشراتها على تتبع سير المعارك مع القوات السعودية. اضافة الى هذا، فان حكومة علي صالح ستستفيد من مواقف التأييد التي جيّرتها الدول العربية والاجنبية لمصلحة المملكة. ومعنى هذا ان الرئيس اليمني سيترجم هذا التأييد الواسع لإظهار نفسه بأنه على حق. في ضوء هذه المعطيات يطرح المعنيون في هذا النزاع اسئلة تتعلق بمستقبل العلاقات السعودية – اليمنية، وما اذا كان بالامكان تخطي العقبات القائمة واستبدال لغة العنف والسلاح بلغة الحوار والتفاهم؟! بعد حرب أهلية ضارية استمرت ثماني سنوات، قررت السعودية الاعتراف بنظام الحكم الجمهوري الجديد في اليمن. وبادرت الى اعلان هذا الموقف في الثامن من نيسان 1970. وجاء هذا الاعلان عقب المصالحة الوطنية التي رعاها الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز. وقد اغتنم مناسبة انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الدول الاسلامية في جدة (23 آذار 1970) ليشرف على المحادثات بين الجانبين الملكي والجمهوري، ويضمن تثبيت المصالحة الوطنية بينهما. وانتجت تلك المصالحة نهاية الحرب الاهلية اليمنية، واعتراف السعودية بنظام الحكم الجديد. الامير سلطان بن عبد العزيز، الذي كلفه الملك فيصل بمهمة التباحث مع الرئيس جمال عبد الناصر حول مستقبل اليمن، وصف في حينه موقف بلاده بأنه موقف الاعتراف بالجمهورية كدولة ذات سيادة كاملة على أراضيها ومستقلة استقلالا تاماً. وأضاف الامير سلطان، بأن بلاده تعتبر أمن اليمن واستقراره جزءاً لا يتجزأ من أمنها واستقرارها. وهذا ما كرره أثناء زيارته لحضرموت في ربيع سنة 2006 يوم استقبله الرئيس علي صالح لمناسبة اجتماع اللجنة السعودية – اليمنية المشتركة التي وقعت على خرائط الترسيم النهائي للحدود. وقد جاء هذا التوقيع بعد سنوات من المساومات والمفاوضات المضنية التي تمثلت ب"اللجنة الخاصة" وبلقاءات ثنائية تمت بين ولي العهد آنذاك الامير عبدالله بن عبد العزيز والرئيس اليمني. عقب ترسيم الحدود بين البلدين من قبل شركة خاصة، أقيم سياج شائك للحؤول دون تسلل الارهابيين واللصوص والباحثين عن عمل ومهربي المخدرات. وكان من الصعب جدا ضبط الحدود البحرية والبرية التي تمتد على مسافة 1500 كلم. ويعترف حرس المناطق الحدودية، بأن جازان تشترك بحدود بحرية – برية مع مدينة الملاحيظ اليمنية، الامر الذي يجعلها نقطة عبور مثالية بالنسبة لمهربي البضائع الممنوعة. ولكن العمليات العسكرية الاخيرة مع الحوثيين، فرضت على الرياض اعادة النظر في موضوع الحماية والوقاية والمحافظة على أمن المواطنين. وهذا يقتضي مراجعة كاملة من قبل الدولتين، والحصول على عهد من قبل الرئيس علي صالح بايلاء هذه المسألة أهمية قصوى. وبين المقترحات التي عرضت أخيراً، اقامة مخافر مشتركة ودوريات مشتركة لمراقبة الحدود. وفي حال استمرت الخروقات، فان المملكة تتهيأ لبناء جدار مكان السياج الامني، لعل هذا العازل يمنع تسلل الحوثيين وجماعة القاعدة، ومهربي المخدرات والبضائع الممنوعة! الصورة لطرق تهريب السلاح الى غزة