ندوة تؤكد على دور علماء اليمن في تحصين المجتمع من التجريف الطائفي الحوثي    هيئة النقل البري تتخبط: قرار جديد بإعادة مسار باصات النقل الجماعي بعد أيام من تغييره إلى الطريق الساحلي    الإعلان عن القائمة النهائية لمنتخب الناشئين استعدادا للتصفيات الآسيوية    لقاءان لقبائل الغيل والعنان في الجوف وفاءً للشهداء وإعلانًا للجاهزية    الأمم المتحدة: اليمن من بين ست دول مهددة بتفاقم انعدام الأمن الغذائي    الحديدة.. المؤتمر العلمي الأول للشباب يؤكد على ترجمة مخرجاته إلى برامج عملية    لابورتا يُقفِل الباب أمام عودة ميسي إلى برشلونة    شبوة تودّع صوتها الرياضي.. فعالية تأبينية للفقيد فائز عوض المحروق    فعاليات وإذاعات مدرسية وزيارة معارض ورياض الشهداء في عمران    بكين تتهم واشنطن: "اختراق على مستوى دولة" وسرقة 13 مليار دولار من البيتكوين    مناقشة جوانب ترميم وتأهيل قلعة القاهرة وحصن نعمان بحجة    شليل يحرز لقب فردي الرمح في انطلاق بطولة 30 نوفمبر لالتقاط الأوتاد بصنعاء    افتتاح مركز الصادرات الزراعية بمديرية تريم بتمويل من الاتحاد الأوروبي    قراءة تحليلية لنص "اسحقوا مخاوفكم" ل"أحمد سيف حاشد"    القرود تتوحش في البيضاء وتفترس أكثر من مائة رأس من الأغنام    من المرشح لخلافة محمد صلاح في ليفربول؟    مفتاح: مسيرة التغيير التي يتطلع اليها شعبنا ماضية للامام    منتسبوا وزارة الكهرباء والمياه تبارك الإنجاز الأمني في ضبط خلية التجسس    تألق عدني في جدة.. لاعبو نادي التنس العدني يواصلون النجاح في البطولة الآسيوية    المنتصر يدعوا لإعادة ترتيب بيت الإعلام الرياضي بعدن قبل موعد الانتخابات المرتقبة    دربحة وفواز إلى النهائي الكبير بعد منافسات حماسية في كأس دوري الملوك – الشرق الأوسط    عالميا..ارتفاع أسعار الذهب مدعوما بتراجع الدولار    جنود في أبين يقطعون الطريق الدولي احتجاجًا على انقطاع المرتبات"    إيفانكا ترامب في أحضان الجولاني    الإخوان والقاعدة يهاجمان الإمارات لأنها تمثل نموذج الدولة الحديثة والعقلانية    حضرموت.. تُسرق في وضح النهار باسم "اليمن"!    خبير في الطقس: برد شتاء هذا العام لن يكون كله صقيع.. وأمطار متوقعة على نطاق محدود من البلاد    عين الوطن الساهرة (2)..الوعي.. الشريك الصامت في خندق الأمن    زيارة ومناورة ومبادرة مؤامرات سعودية جديدة على اليمن    احتجاج على تهميش الثقافة: كيف تُقوِّض "أيديولوجيا النجاة العاجلة" بناء المجتمعات المرنة في الوطن العربي    اليوم انطلاق بطولة الشركات تحت شعار "شهداء على طريق القدس"    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    30 نوفمبر...ثمن لا ينتهي!    أبين.. الأمن يتهاوى بين فوهات البنادق وصراع الجبايات وصمت السلطات    عسل شبوة يغزو معارض الصين التجارية في شنغهاي    تمرد إخواني في مأرب يضع مجلس القيادة أمام امتحان مصيري    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    كلمة الحق هي المغامرة الأكثر خطورة    تغاريد حرة .. انكشاف يكبر واحتقان يتوسع قبل ان يتحول إلى غضب    "فيديو" جسم مجهول قبالة سواحل اليمن يتحدى صاروخ أمريكي ويحدث صدمة في الكونغرس    قاضٍ يوجه رسالة مفتوحة للحوثي مطالباً بالإفراج عن المخفيين قسرياً في صنعاء    قرار جديد في تعز لضبط رسوم المدارس الأهلية وإعفاء أبناء الشهداء والجرحى من الدفع    مشاريع نوعية تنهض بشبكة الطرق في أمانة العاصمة    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    النفط يتجاوز 65 دولارا للبرميل للمرة الأولى منذ 3 نوفمبر    انتقالي الطلح يقدم كمية من الكتب المدرسية لإدارة مكتب التربية والتعليم بالمديرية    مواطنون يعثرون على جثة مواطن قتيلا في إب بظروف غامضة    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    عدن في قلب وذكريات الملكة إليزابيث الثانية: زيارة خلدتها الذاكرة البريطانية والعربية    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل تفشل الثورات دائما؟
نشر في الاشتراكي نت يوم 06 - 12 - 2014

إن حالة العالم، بما فيه من تغير مناخي وفقر وحروب وعنصرية وغير ذلك الكثير، في وضع لا يجعل من السهل على حكامنا أن يقنعوا الناس بأن كل شيء على ما يرام. لكنهم لا يحتاجون لهذا. كل ما يحتاجونه هو أن يقنعوا الناس بأنه لا يمكنهم فعل شيء حيال هذا. هذا هو السبب أنه دائما عندما يتعلق الأمر بتبرير الرأسمالية وعدم المساواة والحرب كانت تعويذة "لكنك لا تستطيع أن تغير الطبيعة البشرية" ذات شعبية عند المتنفذين فيتم التطبيل بها في رؤوس الناس العاديين.
وتتصل فكرة أن الثورات دائما ما تنتهي بالفشل بأطروحة الطبيعة البشرية. فهما مربوطتان بالقناعة التي تقول أنها تفشل، أي الثورات، لأن الناس العاديين غير قادرين على إدارة المجتمع. السلطة الشعبية دائما ما ستكون وهما. وهكذا، فبالرغم من أن جورج أورويل كان اشتراكيا، فإن روايته "مزرعة الحيوانات" كانت دائما رائجة لدى المؤسسة الحاكمة لأنها تقترح أن انحطاط الثورة الروسية إلى ديكتاتورية كان أمرا لا يمكن تجنبه بسبب افتقار الحيوانات التي تمثل الطبقة العاملة للذكاء.
وفي كل مرة تنهزم فيها ثورة، يتقدم تجار الفشل بهذه الحجة. ويناسب الوضع الحالي، بالظروف الصعبة التي تطورت في مصر والطبيعة اليمينية للقوى التي أطاحت بالنظام في أوكرانيا، هذا النوع من التفكير. من ثم يدافع سايمون جنكنز مؤخرا في جريدة الجارديان عن أن "مايداننزاليزنوسته، أوكرانيا.. التحرير، مصر.. ميادين ترمز للفشل لا الأمل".
ومن السهل إعداد قائمة بالثورات والانتفاضات التي فشلت: الانتفاضة الفلاحية عام 1381، الحرب الفلاحية في ألمانيا سنة 1525، كوميونة باريس في 1871، الثورة الإسبانية في 1936، وهلم جرا. بالرغم من ذلك، فإن فكرة أن كل الثورات تفشل كتعميم تاريخي فكرة زائفة.
إن معظم الأنظمة الرأسمالية الديمقراطية الرئيسية اليوم هي نتاج ثورات ناجحة. الأمثلة الأكثر وضوحا لهذا هي الانتفاضة الهولندية ضد الإمبراطورية الإسبانية في القرن السادس عشر، والتي وضعت الأسس لهولندا، والثورة الإنجليزية 1642 – 1649 التي كسرت سلطة الملكية والأرستقراطية الإقطاعية وفتحت الباب للحكم البرلماني، والثورة الفرنسية 1789 – 1794 التي أطاحت برأس لويس السادس عشر وحطمت سلطة الأرستقراطية الفرنسية وأنهت الإقطاع في فرنسا، والثورة الأمريكية في 1775 والتي مهدت الطريق لتطور الولايات المتحدة كأهم أمة رأسمالية في العالم.
تُصاب البرجوازية المعاصرة، أي الطبقات الرأسمالية التي تسيطر اليوم، بالحرج فيما يخص أصولها الثورية، وتحاول إخفاءها بقدر استطاعتها. فأصبحت الثورة الإنجليزية "الحرب الأهلية الإنجليزية"، وليست ثورة بالمرة. الأكثر من ذلك، فإن البرجوازية الإنجليزية المحافظة تتعاطف، بدرجة أو بأخرى، مع المسلسل التليفزيوني "المَلَكيون المرحون" وهم التابعون للملك المخلوع تشارلز الأول في مواجهة "البيوريتانيين" المتزمتين المتجهمين أنصار أوليفر كرومويل، الذي وضع في الحقيقة أسس حكمها. وبشكل مشابه، فإن ميل المؤرخين كان أن يشوهوا سمعة الثورة الفرنسية راسمين إياها على أنها انحدرت إلى عنف عربيد، بالمقصلة وإرهاب أعوام 1793 – 1794.
لكن أيا من جهود مراجعة التاريخ لم يمكنه أن يخفي حقيقة أن هذه كانت ثورات حقيقية تتعلق بتعبئة كتل واسعة من الناس العاديين، والإطاحة بالقوة بالنظام القائم، ونقل السلطة بشكل حاسم من طبقة اجتماعية (الأرستقراطية الإقطاعية) إلى أخرى (البرجوازية)، بطريقة من شأنها أن تقود إلى خلق نظام اجتماعي واقتصادي جديد بالكامل.
الأكثر من هذا، فإن كل هذه الثورات كانت ناجحة بشكل مذهل، وفقا لشروطها. فقد جعلت الثورة الهولندية الجمهورية الهولندية أكثر اقتصادات أوروبا نجاحا بين 1600 و1660. وجعلتها أيضا ديمقراطية وليبرالية وتقدمية بشكل غير مسبوق وفقا لمعايير ذلك العصر – جنة للثائرين، والمفكرين، والفنانين، كالمساواتي جون ليلبورن، والفلاسفة ديكارت وسبينوزا، والرسام ريمبرانت.
في إنجلترا تمت استعادة مَلَكية آل ستيوارت عبر تشارلز الثاني في 1660، لكنه عاد بشروط مختلفة كثيرا عن تلك التي حاول أبوه الحفاظ عليها. هزم البرلمان الملك ولم تُحكم بريطانيا بعد ذلك أبدا من قبل مَلَكية مطلقة. ترسخ حكم البرجوازية والبرلمان بسهولة في "الثورة المجيدة" 1688 – 1689، وأصبحت بريطانيا بلد الثورة الصناعية والقوة الرأسمالية المهيمنة في القرن التاسع عشر.
ولم تقم الثورة الفرنسية فقط بتحويل فرنسا إلى بلد رأسمالي حديث، وجعل باريس عاصمة القرن التاسع عشر السياسية والثقافية، ولكنها، أكثر من أي حدث آخر، دشنت صعود الديمقراطية الحديثة والفلسفة السياسية بمفاهيمها الخاصة بالحرية وحقوق الإنسان، وبعد ذلك الاشتراكية.
ولقد شهد القرن العشرين نطاقا واسعا من الثورات القومية التي حطمت الحكم الاستعماري وأسست الاستقلال الوطني.
تعددت تلك الثورات من الثورة الأيرلندية التي بدأت عام 1916 ووصلت ذروتها في 1920 – 1921، إلى الثورة المصرية في 1919، والثورة الصينية في 1949، والثورة الكوبية 1959، والثورة الجزائرية ضد الفرنسيين بين 1954– 1962، إلى الثورات على حكم البرتغاليين في أنجولا وغينيا بيساو وموزمبيق، وأخرى عديدة.
إذن كيف بعد هذه التجربة الوافرة من الثورات الناجحة، يُزعم بأن مآل الثورات إلى الفشل دائما على هذا الصدى؟ الإجابة هي أن أيا منها لم ينتج بعد مجتمع المساواة والحرية كما ادعت كلها أنه سيتحقق.
الثورة البرجوازية
علينا أن نكون واضحين فيما يخص الثورات البرجوازية التي حدثت في الماضي وبين الثورة العمالية التي نتحدث عنها اليوم. كانت الثورات البرجوازية تقدمية وناجحة، لكنها لم تستطع تحقيق المساواة الاقتصادية أو مجتمع بلا طبقات.
فقد تبنت رطان "الحقوق المتساوية" لتعبئة التأييد الشعبي لكن في الحقيقة فإنها كانت تقودها طبقة نقلت لها سلطة الدولة هي طبقة الرأسماليين، التي كانت بطبيعة الحال طبقة مُستَغِلة ليس بمقدورها البقاء دون طبقة عاملة خاضعة لها. لم يمكن لهذه الثورات أن تذهب أبعد من تحقيق ديمقراطية شكلية دستورية، في أحسن الأحوال بحقوق قانونية متساوية للكل (بالطبع في الممارسة لم تحقق حتى هذا بشكل عام).
ينطبق الشيء نفسه على الثورات العديدة القومية والمناهضة للاستعمار. فلأسباب تاريخية تبنت هذه الثورات عادة لغة أكثر جذرية من الثورات البرجوازية، وسمت نفسها مرارا شيوعية أو ماركسية – وأهم الأمثلة هنا هي الثورتان الكوبية والصينية.
غير أنه بالقدر الذي بقيت به هذه الثورات تحت قيادة الطبقة الوسطى وليس الطبقة العاملة، فإنها لم تستطع أن تقوم بأكثر من تأسيس أنظمة رأسمالية دولة مستقلة، لم تمثل فقط مجتمعات طبقية وإنما أيضا كانت عرضة لكل الضغوط التشويهية من السوق العالمية.
هنا يتوجب قول كلمة عن الفلاحين. من اللحظة التي حدث فيها التطور من الصيد والالتقاط إلى الزراعة قبل خمسة آلاف سنة أو أكثر، دائما كانت الغالبية العظمى من سكان الأرض فلاحون. بالضرورة، كان كثير إن لم يكن معظم من شاركوا في الثورات من الفلاحين. كانت هذه هي الحالة مع جيوش بانشو فيللا وإيمليا نوزاباتا في الثورة المكسيكية، ومع جيش ماو الأحمر في الثورة الصينية، وعصبة حرب العصابات بقيادة فيديل كاسترو في كوبا.
لكن هناك صعوبة ضخمة لدى الفلاحين كقوة ثورية: يمكنهم أن يحاربوا بضراوة ضد النظام القديم، ضد أصحاب الأرض والمستعمرين، لكنهم لا يمكنهم التحكم في المجتمع الجديد الذي يظهر إذا نجحت الثورة. هذا شيء لا علاقة له بالمرة بنقص القدرات أو الذكاء، بل له كل العلاقة بظرف حياتهم.
تعتمد السلطة في أي مجتمع في النهاية على التحكم في قوى الإنتاج، وفي المجتمع الحديث توجد قوى الإنتاج الحاسمة في المدن، وقاعدة الفلاحين في الريف. وبعد المشاركة في أي ثورة، يصبح على الفلاحين في نهاية الأمر أن يعودوا أدراجهم إلى الريف تاركين شخصا آخر لإدارة المدن، ومن ثم المجتمع.
أما الطبقة العاملة، أو من يعتاشون على بيع قوة عملهم، فتختلف. على عكس الفلاحين فهي تتركز في أماكن عمل كبيرة، سواء كانت تلك مصانع أم مراكز الاتصال (الكول سنتر)، ترسانات السفن أم مكاتب المجالس الحكومية. كما أنها تتركز في المدن الكبيرة حيث تقع قوة المجتمع الحقيقية.
وكما انتشرت الرأسمالية حول العالم، زاد حجم الطبقة العاملة بشكل درامي لما يجعلها تشكل أغلبية سكان العالم. بدون الطبقة العاملة لن يتم تجميع كمبيوتر أو سيارة، لا يمكن أن تجد المحال وفروع السوبر ماركيت موظفين، لن تُفتح مدرسة ولا مكتب، ولن تتحرك طائرة ولا حافلة ولا قطار.
يعطي ذلك الطبقة العاملة قوة محتملة هائلة، ليس فقط من أجل هزيمة الرأسمالية لكن أيضا لبناء وحكم المجتمع الذي يأتي بعدها، ولكي تقوم بهذا بطريقة ديمقراطية. الطبقة العاملة هي أولى الطبقات المقهورة في التاريخ التي لديها القدرة على إدارة المجتمع دون استغلال أو قمع الآخرين.
لكن هل تستطيع الطبقة العاملة التحكم الديمقراطي في قياداتها هي؟ ألن تصعد بالضرورة مجموعة جديدة مميزة من المُضَطهِدين من بين صفوفها وتسيطر؟ ويثير توجيه هذا السؤال قضية الطبيعة البشرية، ومصير الثورة الروسية وتحولها إلى ديكتاتورية.
من المعتاد أن ُيقال أن الطبيعة البشرية، بكونها جشعة ولا تهتم إلا بمصلحتها الخاصة، تجعل المساواة الحقيقية مستحيلة. لكن هذا زيف، لأن الطبيعة البشرية ليست ثابتة. إنها تتغير وتتطور مع تغير الظروف. نحن نعلم من حقيقة أن الصيادين، ومن عاشوا على الالتقاط، عاشوا في مجتمعات ديمقراطية ومساواتية لعشرات الآلاف من السنين قبل ظهور الطبقات، أنه لا يوجد شيء كعائق جوَّاني ما للمساواة مقيم في الطبيعة البشرية.
الثورة الروسية
علينا أن نقر أن انحطاط الثورة الروسية إلى الاستبداد هو أحد الأسباب الرئيسية في أن العديد من الناس يعتقدون أن الثورات مقدّر لها الفشل. فقد كانت، برغم كل شيء، أعظم ثورات القرن العشرين، والوحيدة التي نجحت فيها الطبقة العاملة في الاستيلاء علي السلطة. ومن المحتوم أن يُنظر إليها كحالة اختبارية. على ذلك، فإن الظروف المادية التي وجدت الثورة نفسها فيها في الأعوام التي أعقبت 1917، كانت قاسية لدرجة أن انحطاطها كاد يكون لا مفر منه.
قبل الثورة، كانت روسيا أكثر قوى أوروبا تخلفا من الناحية الاقتصادية– فقد كانت الأغلبية الكاسحة من سكانها فلاحين، ولم تشكل الطبقة العاملة سوى أقل من 10٪ منهم. انتكب اقتصادها بسبب الحرب العالمية الأولى، ثم تعرض للتدمير تماما بعدها في الحرب الأهلية. بحلول 1921، تراجع الإنتاج الصناعي إلى 31٪ من مستواه في 1913، وسقط الانتاج الكبير إلى 21٪ من مستواه في نفس العام. فاقم من هذا الانهيار الاقتصادي تفشي الجوع والتيفود والكوليرا.
كان من أثر ذلك اجتماعيا تحطيم الطبقة العاملة المدينية التي صنعت الثورة وأرست سلطة العمال في 1917. صارت الطبقة العاملة، كما قال لينين وقتها، "في وضعية أدنى طبقيا.. وانتُزعت من أخدودها الطبقي، وتوقفت عن الوجود كبروليتاريا". بالإنهاك المادي والسياسي الذي صارت فيه، فقدت الطبقة العاملة قدرتها على التحكم في حكومتها وفي مسئولي دولتها هي.
في هذه الظروف كان لا يمكن تجنب أن يتحول مسئولو الدولة والحزب، سواء أكانوا شيوعيين مخلصين أم لا، إلى بيروقراطية تتمتع بالمزايا ولا تخضع للحساب، وأن يتغير وعيهم وفقا لهذا. فصار من الممكن، وقد حدث فعلا، أن تتحول ديكتاتورية البروليتاريا التي تصورها لينين إلى ديكتاتورية على البروليتاريا.
هل كان هناك أي سبيل للخروج من هذا الطريق المسدود؟ نعم، لكن فقط لو كانت الثورة انتشرت إلى الدول الأخرى الأكثر تقدما من الناحية الاقتصادية، التي كانت لتمكن من إرسال العون إلى العمال الروس المستنفدين. كاد هذا أن يحدث: فقد انتقلت الثورة فعلا لألمانيا وإيطاليا (بالإضافة إلى أماكن أخرى)، واقتربت جدا من الانتصار. لكن هزيمتها، بالأساس بسبب نقص القيادة الثورية، ترك الثورة الروسية معزولة وختم مصيرها.
بمجرد أن نفهم الظروف المادية التي سببت فشل الثورة الروسية يتضح أنها ترسل رسالة أمل وليس رسالة يأس للثورة اليوم. ليس هناك اليوم دولة كبرى إلا وقواها الإنتاجية أكثر تطورا وطبقتها العاملة أقوى بكثير مما كانت عليه روسيا في 1917. العالم أكثر تكاملا واندماجا بكثير مما كان عليه وقتها، لذا فبمجرد حدوث تطور نوعي في بلد ما فإن نشر الثورة عالميا سيكون أسهل بكثير مما كان الأمر عليه بين 1917 و1923.
فشل الميادين؟
أما وقد أجبنا على الحجة التاريخية العامة ضد الثورة، يمكننا العودة الآن للفكرة الخاصة بفشل الميادين (تيان آن مين، التحرير، بويرتو ديل سول، تقسيم، مايدان.. إلخ) في أن تقدم مجتمعات جديدة أفضل، وهي الفكرة التي يدافع عنها سايمون جنكنز وآخرون.
يقول جنكنز أن الحشود في الميادين أصبحت "أيقونة السياسة الثورية المعاصرة"، ويعترف بقوتها الإلهامية. لكنه يدعي أن "الحشود تدمر ونادرا ما تبني". ويكتب قائلا: "يمكن لحشد أن يطيح بوصلات كهرباء نظام ضعيف ويغرق الدولة في الظلمة. لكنه نادرا ما يدير مفتاح الإضاءة الديمقراطية. أي هبة قد تقدم الأمل في أزمنة أفضل، لكن التاريخ دائما شكاك".
غير أن جنكنز يقترف خطأين أساسيين. الأول، هو أنه يعامل كل الحشود في الميادين على أنها نفس الظاهرة، عوضا عن أنه ينظر في التركيب الطبقي الخاص، والأهداف السياسية، والأفكار والأيديولوجيات السائدة عند كل واحد منها. لا يحاول جنكنز أن يميز بين حشد ينتمي للطبقة الوسطى وحشد ينتمي للطبقة العاملة، وحشد رجعي، وحشد جذري، وهكذا.
ثانيا، أن الحشود في ميادين بعينها صارت ترمز للحركات الثورية، يساوي جنكنز بين الميدان وبين الثورة ككل، فيخفق في أن ينظر بعين الاعتبار لعناصرها الأخرى، أو القوى الاجتماعية الأوسع المشتركة فيها. يشبه الأمر تقليص الثورة الفرنسية إلى مجرد اقتحام الباستيل، أو الثورة الروسية إلى المسيرة إلى قصر الشتاء.
هذا خطأ بالعلاقة بكل الهبَّات الأخيرة، لكن خطأ بالذات في حالة الثورة المصرية؛ لأنه بالرغم من أن الإعلام قد ركز تقريبا بشكل حصري على التحرير، كانت هناك نضالات كبرى وتعبئة عبر البلاد، خاصة في الإسكندرية والسويس، ولأن الجمع بين الجموع في الشوارع مع الإضرابات المنتشرة بسرعة واحتلال أماكن العمل كان هو الشيء الحاسم في فرض إسقاط الديكتاتور حسني مبارك.
بالتالي فإن جنكنز، والآخرين الذين قد يكتبون عن الثورات محتومة الفشل، يخرجون بالاستنتاج الخاطئ من النضالات. فبينما حقيقي أنه من غير المحتمل أن تنجح الحركة التي لا تذهب لأبعد من مجرد احتلال المساحات العامة، من غير الصحيح بالمرة أن نتخيل أن حالات التعبئة هذه لا يمكنها أن تتجاوز مثل تلك الحدود.
في الواقع، الاستنتاج الصحيح هو أن التعبئة الجماهيرية في الشوارع خطوة ضرورية تماما في أي عملية ثورية، لكننا سنحتاج أيضا الإضرابات العامة واحتلال أماكن العمل، لأن نقطة الإنتاج هي التي يكون رأس المال عندها في أضعف أوضاعه وتتركز فيها قوة الطبقة.
بالإضافة لهذا، نحن نحتاج القيادة الاشتراكية الثورية، لأنه بدون السياسة الثورية يمكن إساءة قيادة وتوجيه أي حركة جماهيرية وخيانتها.
لو أمكن الجمع بين هذه العناصر معا، فإن إمكانات الطبقة العاملة العالمية المحتملة على هزيمة الرأسمالية وبناء مجتمع اشتراكي أممي هي أعظم الآن مما كانت عليه في أي وقت في التاريخ.
............
الناشر:وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية
المقال باللغة الإنجليزية منشور بمجلة"الاشتراكي" الشهرية البريطانية
ترجمة: وائل جمال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.