المتغيرات الدولية المتسارعة التي تشهدها مختلف أقطار العالم تلتقي حول حقيقة واحدة توحي أن العالم برمته يتجه صوب مخاض دولي جديد يعيد تشكيل الخارطة السياسية للعالم، وبالتالي صياغة نظام دولي جديد ذي قطبين أو متعدد الأقطاب وزوال النظام الدولي القائم أحادي القطب. لقد أمعنت الولايات المتحدةالأمريكية في الهيمنة والتسلط على مدى أكثر من عقد ونصف من الزمن منذ سقوط الدب الروسي «الاتحاد السوفيتي» في 1990م، ليفقد العالم التوازن لتنتهي بذلك الحرب الباردة التي دامت «45» عاماً بين عامي «45 1990م».. بسقوط «الاتحاد السوفيتي» سقط المعسكر الشرقي برمته وتم تشييع جثمان «حلف وارسو» في 1/6/1991م بحضور عدد من الدول الشرقية بمشاركة «بلغاريا، المجر، تشيكوسلوفاكيا، الاتحاد السوفيتي» بعد 36 سنة من قيام الحلف.ومع ميلاد النظام الدولي الجديد «ذي القطب الواحد» أصبحت الولايات المتحدةالأمريكية الدولة العظمى المهيمنة على العالم توجه قدرات أقطار العالم وفق رغباتها وتوجهاتها السياسية التي تخدم مصالحها في المقام الأول باسم رعاية السلام ومصالح العالم، فأخضعت بالأساطيل والأسلحة الحديثة المتطورة والتحالفات السياسية بلدين كبيرين من بلدان الشرق هما «أفغانستان» و«العراق » خلال سنوات معدودة تحولت معها امريكا من راعية سلام إلى دولة استعمارية، في الوقت الذي تعكس بنواياها وتصرفاتها المختلفة رغبتها بتحويل دول أخرى إلى أهداف عسكرية جديدة بعد أن فشلت باستهدافها سياسياً واقتصادياً خصوصاً «كوريا الشمالية»«إيران»«سوريا»، في الوقت الذي تواصل فيه عداءها لكثير من دول العالم في شتى القارات بما فيهم جيرانها الأتربون «فنزويلا، كوبا، تشيلي، كولولمبيا ...وغيرها».في الوقت الذي وجهت كثيراً من قدراتها السياسية والعسكرية لإحكام ضغوطها وفرض مطامعها ومصالحها على كبريات دول العالم ك«الصين، روسيا، فرنسا» أكدتها حقائق ثابتة كالدعم الأمريكي لاستقلال «تايوان» ورفدها بالمعدات والآليات العسكرية وتنفيذ طلعات متواصلة لطائرات التجسس على الأجواء الصينية، وقضية الغواصة الروسية التي دمرت ليست بعيدة ودعم عناصر شيشانية لتنفيذ عمليات احتجاز رهائن وتهديد مصالح روسية، ومثل هذه الممارسات الأمريكية طالت دولاً أخرى ولم تقف عند حد معين. تحولات كبرى مرتقبة إن السياسية الأمريكية القائمة على الضغوط والهيمنة وأشكال التهديد قد حتمت على عدد من الدول مواكبة الركب الأمريكي ومجاراته والاستسلام له ليقودها ذلك إلى التبعية الكاملة كما هو حال «بريطانيا، ايطاليا، اليابان، اسبانيا...»، بيد أن غزو العراق واحتلال هذا البلد الشرقي في شهر مارس آذار/2003م وعلى مدى السنوات القليلة الماضية قد شكل معطيات سياسية خطيرة تقود العالم إلى تحولات كبرى مرتقبة، فسقوط عدد من القادة الكبار المؤيدين للولايات المتحدةالأمريكية في الانتخابات كما حدث في اسبانياوايطاليا وتدني شعبية رؤساء حكومات بريطانيا واليابان، وامتداد هذه المواقف الشعبية إلى الولايات المتحدةالأمريكية ذاتها بتدني شعبية الرئيس الأمريكي ال«43» للولايات المتحدةالأمريكية «جورج دبليو بوش» يضع لبنات تصدع الدولة من الداخل في غمرة انشغالها بالحروب والثأرات ومحاولات إخضاع العالم برمته والهيمنة على حلفائها الأقربين والتصدي لأعدائها اللدودين ومناهضيها في العالم. ردود فعل مساوية ومما لا شك فيه أن هذه السياسة المتشددة للولايات المتحدةالأمريكية خصوصاً مع بداية القرن الحالي الواحد والعشرين قد خيبت آمال كثير من دول وزعماء العالم في بناء قاعدة سياسية متزنة للإدارة الأمريكية مع مختلف شعوب وأقطار العالم بعد أن أضحت قطب العالم الوحيد وبلا منازع في النظام العالمي الجديد.. إذ لا يمكن تسيير مختلف الشعوب والأمم والدول والزعامات بمنطق القوة والتهديد والضغط، وإذا كانت أفغانستان والعراق وكوبا وفنزويلا وغيرها قد رفضت هذه الأساليب لافتقارها للمنطق فقد رفضتها بعد ذلك كوريا الشماليةوإيران والصين، وهو أسلوب مرفوض من كثير من دول العالم المتبقية.. وبعد احتلال أفغانستان أكدت الإدارة الأمريكية أن دول محور الشر هي ثلاث دول «العراق، كوريا الشمالية، إيران» فاستطاعت بعد ذلك احتلال العراق لكنها عجزت عن إخضاع كوريا الشمالية فاندفعت صوب «سوريا»و«إيران» اللتين شكلتا تحالفاً سياسياً وثيقاً وربما عسكرياً أيضاً للوقوف في وجه التهديدات الأمريكية بقوة، وانبرى الرئيس الأيراني أحمدي نجاد إمعاناً في التحدي إلى التشكيك بالمحرقة اليهودية، وأخيراً بعد رفضه المستمر لضغوط امريكا حيال الطاقة النووية أعلن بملء الفم أن ايران أصبحت دولة نووية ويجب التعامل مع إيران من هذا المنطلق. إن الولايات المحدة التي عجزت عن فك رهائنها من طهران في عهد «جيمي كارتر» الرئيس الأسبق ولم تسلمهم إيران إلا بعد 444 يوماً بعد صعود «رونالد ريغان» إلى السلطة في 1982م ناهيك عن إسقاط الطائرات الأمريكية في الصحراء الإيرانية لن تحقق اليوم في إيران ما عجزت عنه بالأمس، ولذا أصبحت إيران ومعها سورية الحليفة بمأمن من التهديدات الأمريكية وتنفيذ هجمات محتملة ولا غرابة فكل فعل له رد فعل مساوٍ له في المقدار مضاد له في الاتجاه. بين التبعية الكاملة أو العداء الكامل لقد اعتقدت الإدارة الأمريكية أن الخيار العسكري واحتلال الولايات المتحدةالأمريكية وحلفائها لأفغانستان والعراق سيعزز موقفها العسكري ويخلق هيبة في قلوب أعدائها والانصياع لإرادتها ومطالبها، بيد أن هذه الأحلام تبخرت وانعكست العمليات الحربية سلباً على الولايات المتحدة، وسّعت حجم السخط العالمي على امريكا ووسعت حجم العداء مع دول العالم لتضع امريكا في مأزق الاحتياج إلى خيارات عسكرية مماثلة ليشل بدوره فاعلية الإدارة الأمريكية، ويخلق العجز والوهن في قدراتها، فالأحقاد والثأرات ومحاولة النيل من الآخر والقضاء عليه تدفع بالدولة إلى الخروج عن التوازن وفقدان الثقة والقدرة وتواجه صدامات وإحباط شأن الدولة شأن الفرد في هذا الصدد.. أما حلفاء الولايات المتحدةالأمريكية فلم يزدهم هذا التحالف إلا وهناً وضعفاً والتحول من الواجهة إلى الظل، يقول الرئيس الصومالي الأسبق محمد سياد بري في إحدى مقولاته «ان طلبات امريكا من حلفائها كثيرة وبعض هذه المطالب لا يمكن الاستجابة لها مطلقاً». لقد فرضت الولايات المتحدة على العالم خلال أكثر من عقد كامل إطارين للتعامل والعلاقات مع دول العالم المختلفة هي: التبعية الكاملة أو العداء الكامل، والذي بدوره أجهد الإدارة الأمريكية وشغلها بالحروب والصراعات ومحاولات إخضاع الدول والشعوب لتفقد بريقها ويشل إرادتها وقدراتها ويضعها في عزلة دولية غير معلنة عن العالم، في الوقت الذي أخذت عدد من الدول في وضع لبنات ثابتة للنمو الشامل والتفوق الكبير وخلق تحالفات دولية واسعة حولها والذي بدوره أحال توجه العالم شرقاً صوب الصين وروسيا والهند، وهذا التهافت الدولي نحو إقامة وتعزيز العلاقات والروابط الثنائية مع روسيا والصين والهند، وما أسفرت عنه المتغيرات الداخلية لكثير من دول وأقطار العالم بسقوط الزعماء ورؤساء الحكومات الموالية لواشنطن ونجاح الجناح المعادي لها في اسبانياوايطالياوتشيلي وفنزويلا والفلبين وغيرها واستقلالية كثير من البلدان عن الركب الأمريكي مؤشر هام وفعلي لتراجع الولايات المتحدةالأمريكية من موقعها الدولي، والذي بدوره حتم على الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش زيارة الهند واستقبال رئيس الصين الشعبية خلال شهر واحد ليمثل اعترافاً غير معلن بتفوق وإمكانات هائلة للدولتين كأنداد للولايات المتحدةالأمريكية لا حلفاء أو مؤيدين.. في الوقت الذي رفضت روسيا طلب الولايات المتحدةالأمريكية بعدم التعاون النووي مع إيران، موضحة أن لكل دولة الحق في اختيار وتحديد إقامة العلاقات مع من تشاء وهو حق ليس بمقدور الولايات المتحدةالأمريكية إلغاءه أو سلبه من أية دولة. عودة إلى الحرب الباردة إن السنوات الأربع المتبقية من العقد الأول للقرن الواحد والعشرين تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت والتحولات الهامة على المسرح الدولي، وخلال هذه المدة الوجيزة ستبدأ العلاقات الدولية والأحداث المقبلة في صياغة وبلورة نظام عالمي جديد قد يكون هذا النظام العالمي الجديد «ذا قطبين» تكون الولايات المتحدةالأمريكية أحد قطبيه وتمثل «الصين» القطب الثاني لامتلاكها المقومات الكاملة والإرادة السياسية والزعامة القوية أكثر بكثير من «الهند»، وربما يكون النظام العالمي الجديد ثلاثي الأقطاب «امريكا، الصين، الهند»، لكن الساحة الدولية على ما يبدو لا تتسع لأكثر من قطبين إلاَّ أن الجديد في هذا النظام الدولي المرتقب أن لكل قطب دولي جديد تحالفات كبيرة مع كبريات الدول وبحجم التحالفات الدولية لكل الأقطاب المرشحة «امريكا، الصين، الهند» تصبح قوة هذا القطب، وبمعنى أوضح إن الولايات المتحدةالأمريكية لو فقدت تحالفاتها السياسية والعسكرية أكثر من اليوم فإن ذلك يعد مؤشر تراجع يقصيها عن النظام العالمي المرتقب الذي يمكن أن ينحصر بين الصين والهند فقط.. ومما لا شك فيه أن التوتر الدولي الراهن الذي خلقه الملف النووي الإيراني والعدوان الإسرائيلي الهمجي على الشعبين اللبناني والفلسطيني قد وضع العالم في بداية مشواره للنظام الجديد بفعل التوازن الفعلي غير المعلن في القوى والقدرات والتحالفات، والذي يشكل إيذاناً بعودة الحرب الباردة مجدداً كخطوات أولى نحو قيام النظام العالمي المرتقب.