في وقت يتساقط فيه مئات الضحايا الأبرياء في لبنان جراء القصف الوحشي الذي تقوم به قوات الجيش "الإسرائيلي" على كل أرجائه من دون تمييز طلعت علينا الآنسة «كوندوليزا رايس» وزيرة الخارجية الأمريكية لتتحدث عن أن الأوان قد آن لشرق أوسط جديد، وهي تصريحات قوبلت في المنطقة كلها بالكثير من الذهول والاستغراب، فهل يمكن اعتبار أن هذا هو الوقت المناسب للتبشير بالشرق الأوسط الجديد الذي لا نعرف ملامحه ومتطلباته لدى الآنسة «رايس»؟ لكن الواضح أن ضرب حزب الله هو أحد متطلبات تشكيل هذا الشرق الأوسط الجديد، كأن عملية حزب الله قبل أسبوعين التي نتج عنها أسر جنديين "إسرائيليين" هي الذريعة التي كانت تبحث عنها واشنطن وحليفتها "إسرائيل"، لخوض هذه الحرب الظالمة ضد لبنان وتدميره وتدمير بنيته التحتية. كان أمراً مفجعاً ألا تتحدث وزيرة خارجية الدولة العظمى الوحيدة في العالم عند وصولها إلى المنطقة عن وقف لإطلاق النار ولو بذريعة الأسباب الإنسانية، بل أعلنت دعماً مطلقاً ل"إسرائيل" في حربها العدوانية وصاحبت زيارتها أخبار مؤكدة عن تزويد الجيش "الإسرائيلي" بتقنية القنابل الذكية القادرة على اختراق التحصينات القوية تحت الأرض.. وأكثر من ذلك ما قاله عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية عند افتتاح اجتماعات الاتحاد البرلماني العربي من أن مجلس الأمن، لأول مرة في تاريخه منذ إنشائه قبل ستين سنة، يماطل منذ أسبوعين في إصدار قرار بوقف إطلاق النار في منطقة مواجهة معروفة كالجبهة اللبنانية "الإسرائيلية"! تحدث السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله الأسبوع الماضي، مؤكداً أنه أطلع أطراف الحوار الوطني اللبناني مسبقاً على أن الحزب سيسعى للقيام بعملية عسكرية تستهدف أسر بعض الجنود الإسرائيليين ليمكن التفاوض على إطلاق الأسرى اللبنانيين في السجون "الإسرائيلية" وفي مقدمتهم «سمير قنطار».. وبحسب حديث أمين عام حزب الله فإنه لم يكن يتوقع هذا المستوى من رد الفعل "الإسرائيلي"، بل لعله لم يكن يتوقع أي رد فعل إطلاقاً، فهل وقع حزب الله في فخ نصب بإحكام؟ قد يكون هذا وارداً من خلال التأمل في رد الفعل "الإسرائيلي" السريع والجاهز، والذي قد يكون بني على معلومات تم تسريبها من بعض أطراف الحوار اللبناني المعروفين بأن لهم علاقات سرية مع تل أبيب، وهو ما يعلمه السيد حسن نصرالله جيداً، فهل كان هو الآخر قاصداً وصول تلك المعلومات ل"إسرائيل"؟ الحقيقة أن الخوض في الإجابة عن مثل هذا السؤال قد لا يؤدي إلى إجابة صحيحة لكن الحديث عن إمكان وقوع حزب الله في فخ هو أمر ممكن باعتبار أنها ليست المرة الأولى التي يقوم فيها الحزب بأسر جنود "إسرائيليين" من دون أن يؤدي إلى مثل هذا الرد الجنوني من قبل "إسرائيل". الحديث عن الفخ يعني أن قراراً دولياً قد تم اتخاذه بتصفية حزب الله عسكرياً على الأقل، لكن التاريخ المعاصر أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن تنفيذ مثل هذا القرار هو أمر محفوف بمخاطر كثيرة، وهذا ما برز بوضوح من خلال المقاومة الشرسة التي تواجهها القوات "الإسرائيلية" عند محاولاتها دخول أراضي الجنوب اللبناني منتصف هذا الأسبوع، وهي أول مرة تواجه فيها هذه القوات مثل هذه المقاومة، خصوصاً عند مقارنة ما يجرى حاليا« بعمليتي غزو لبنان في عامي 1978 و1982 عندما لم يواجه الغزاة مقاومة بهذا المستوى.. ولعل ذلك يجعلنا نتساءل من جانب آخر هل: وقع "الإسرائيليون" هم أيضاً في فخ لم يحسبوا حسابه بشكل دقيق؟ لعل كثيرين راهنوا على أن خروج القوات السورية من لبنان سيضعف حزب الله من الناحيتين السياسية والعسكرية، لكن الواضح أن تقديرات هؤلاء لم تكن دقيقة على ضوء العمليات العسكرية الجارية حالياً، ف"إسرائيل" بكل إمكاناتها العسكرية والتقنية الهائلة وما تجده من دعم أمريكي مباشر على كل الصعد فشلت حتى الآن في السيطرة على مصادر النيران والصواريخ التي يطلقها "حزب الله" على شمال فلسطينالمحتلة والتي أحدثت فزعاً غير مسبوق في النفسية "الإسرائيلية"، بل وأحدثت خسائر كبيرة في الاقتصاد "الإسرائيلي" بعد نزوح عشرات الآلاف من السكان اليهود إلى المناطق الجنوبية التي لا تطالها صواريخ "حزب الله" وتحول تلك المدن إلى مناطق شبه مهجورة، وهو أمر لم يعهده "الإسرائيليون" منذ قرابة ستين عاماً! في ضوء كل ما يجرى لا يبدو أن هناك حلولاً قريبة رغم كل المساعي المبذولة من أطراف دولية وعربية، فيما "إسرائيل" ترفض وقف النار والعدوان قبل تحقيق أهدافها. كل المؤشرات تؤكد أن "حزب الله" لن يسلم الجنديين "الإسرائيليين" إلا بمفاوضات تضمن إطلاق الأسرى اللبنانيين من السجون "الإسرائيلية"، لأن الحزب إن فعلها سيحكم على نفسه بالنهاية ،خاصة بعد كل ما تعرض له لبنان من تدمير.. وفي الوقت ذاته تبدو الحكومة "الإسرائيلية" مصرة على تنفيذ مخطط تدمير الحزب، لكنها قد لا تتحمل حرباً طويلة، وبالذات إذا استمر قصف حزب الله لشمال فلسطينالمحتلة، وقد تذهب حينها للبحث عن حلول تحفظ لها ماء الوجه، مستفيدة من الضغوط الدولية على الحكومة اللبنانية وما يمكن أن تواجهه سوريا من ضغوط لتدخل كوسيط في حل الأزمة. المؤكد أن "حزب الله" لن يكون هو نفسه بعد انتهاء هذه الأزمة، وإلا فقد يكون الثمن هو وحدة لبنان واستقراره، لكن عليه أن يستفيد من حالة التماسك الوطني اللبناني القائمة حول موقفه، حيث يطالب الجميع بوقف إطلاق النار أولاً قبل أي تفاوض، وهو ذات الموقف العربي حتى الآن، فهذا التماسك، وإن كان في حده الأدنى سيقلل من الخسارة السياسية التي سيدفعها الحزب لاحقاً من شعبيته ومكانته داخل لبنان الذي لم يكن جاهزاً لأية حروب من هذا النوع بعد ستة عشر عاماً من انتهاء الحرب الأهلية، وبعد ستة أعوام من تحرير جنوبه المحتل، فاللبنانيون الذين عادوا لممارسة حياتهم الطبيعية وجعلوا بلادهم من جديد محوراً للاستثمار والسياحة والتعايش الديمقراطي، لن يكون لديهم الاستعداد مرة أخرى لخوض مثل هذه الحرب من دون حسابات مسبقة أو رؤية واضحة لأهدافها ونتائجها حتى وإن كانوا مجمعين على حب واحترام "حزب الله" وتقدير أدواره الوطنية المشرفة.