الديمقراطية الحقة فلسفة متكاملة لاتجزئها الأهواء، أو المصالح الفئوية، ولاحتى تقلبات مراكز المنظومة السياسية، لأنها ليست مجرد خيار سياسي للدولة، بقدر كونها مجموعة قيم ووسائل أخلاقية وإنسانية وحقوقية تتشكل بممارساتها نظم الحياة المجتمعية، ودوائر الحراك التنموي لجميع قطاعاتها السياسية، والاقتصادية والثقافية، والاجتماعية، وهو الأمر الذي يجعل أي تعطيل لانسياب إحدى تلك الدوائر بمثابة إخلال في التوازن العام لديناميكية حياة المجتمع، وبالتالي إفراز مراحل مشوهة بالكثير من الأورام المتفاوتة بخطورتها، وأحجامها. إن تبني الخيار الديمقراطي في حكم الدولة لابد أن يعني الإيمان بالأدوات الوطنية، والإرادة الشعبية كعناصر وحيدة في تشكيل نظم الحياة السياسية والعامة، بل أيضاً كوسائل مشروعة في فرض الخيارات الوطنية على مختلف الأصعدة بما في ذلك تداول السلطة. فعندما تتفق القوى الوطنية على الانتقال من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية مثلما حصل في اليمن فإن هذا الاتفاق الموثق بلوائح دستورية سيمثل اعترافاً جماهيرياً ببطلان أي نظام حكم سياسي لايأتي عبر صناديق الاقتراع، وسيعد أي قوة وطنية تتطلع إلى غير ذلك السبيل قوة خارجة عن الدستور، ومنتهكة للإرادة الوطنية العامة، وبالنتيجة يسقط حقها في التمتع بالحقوق الدستورية، لأنها أصلاً خرقتها، ورفضت العمل بموجبها. إن الإشكالية الأساسية في ما يتجه نحوه دعاة الإصلاح السياسي في اليمن تكمن في أنهم يلزمون السلطة بالامتثال للدستور في كل مايتعلق بحقوقهم الديمقراطية وحرياتهم الإنسانية، في نفس الوقت الذي يرفضون - هم أنفسهم -احترام الأسلوب الذي أقره الدستور في تداول السلطة عبر الانتخابات فنراهم يتطلعون تارة إلى "حكومة ظل"، وتارة أخرى إلى "استقدام قوى خارجية" تفرضهم بآلتها الحربية على الشعب بعد إبادة النظام الحاكم، على غرار ماحصل في أفغانستان أو العراق أو بنما، وغيرها من التجارب التي استعانت فيها قوى المعارضة الوطنية بنفوذ الخارج. إشكالية دعاة الإصلاح السياسي في الوقت الحاضر هي بالأساس إشكالية دستورية قبل أي شيء آخر لأنهم يتشبثون بكل حقوقهم الدستورية من أجل مدها كجسور لغايات غير شرعية ومع هذا فإن ماينبغي إيضاحه هو أن مظاهر هذا اللون من القوى الإصلاحية ليست بالضرورة أن تترجمها دعوات تدخل عسكري مباشر، فهناك مايمكن وصفه ب «ديمقراطية القتل الرحيم»، وهي الممارسات الديمقراطية التي تستثمرها بعض قوى المعارضة في تقويض دعائم السيادة الوطنية بدلاً من تعزيزها وترسيخها أو بمعنى آخر استخدام الديمقراطية لا أخلاقياً. ومثل هذا يحدث عندما مثلاً يكرس تيار معارض حريات الصحافة والتعبير عن الرأي لتأجيج فتن وصراعات داخلية، تشتت قوة السلطة المركزية، وتستنفذها، وتزعزع استقرار ساحتها السياسية بقدر قد يتيح لأي فصيل مرغوب لدى قوة خارجية معينة الحصول على دعمها والاستيلاء على مقاليد الحكم.. أو قد يوجه ذلك التيار المعارض حريات الصحافة لتشويه سمعة البلد خارجياً، وتأليب الرأي العام الدولي على نظامه، مثلما جرى عليه الحال في اليمن إبان أحداث التمرد في صعدة، حين روجت بعض وسائل إعلام المعارضة قصص إبادة بشرية مختلفة وانتهاكات شتى كادت تشعل حرباً مذهبية. في أحيان أخرى تترجم بعض القوى المعارضة سياسة «ديمقراطية القتل الرحيم» باستثمارها منظمات مجتمع مدني معينة في إفشاء معلومات للخصوم ذات طابع استراتيجي أو أمني أو سيادي، والعمل كعيونه التي يترصد بها الثغرات، وبالتالي تمكينه من ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على السلطة على النحو الذي يدفعها أحياناً لتقديم تنازلات غير مرغوب بها. الأمثلة عديدة وبعضها على درجة كبيرة من الخطورة تندفع نحوها بعض القوى السياسية من غير اكتراث لعواقب ما قد ينجم عنها.. وعلى ضوئها نجد أن دعاة الإصلاحات السياسية - بصيغ غير دستورية - يجهلون تماماً مفاهيم الديمقراطية، وقيمها، كما أنهم ليسوا سياسيون حقيقيون «بالمعنى الفكري للمفردة» وإنما هم انتهازيين باحثين عن السلطة والمال بغض النظر عن مشروعية الوسائل أو القيم الوطنية التي يضحون بها لأجل بلوغ مرادهم. يقيناً إن الديمقراطية متى ماتجاوزت على عناصرها الوطنية تفقد خصائصها ووظائفها التي قامت لأجلها، بوصفها فلسفة متكاملة تتشكل بممارساتها نظم الحياة المجتمعية ودوائر الحراك التنموي للدولة، وإذا كان هناك من يعتقد أن عيوب أو فساد بعض الأنظمة السياسية في دول الديمقراطيات الناشئة تقف عائقاً أمام مسارات الحراك السياسي الديمقراطي، والتنمية الشاملة لبلد ما، ويبرر على أساس ذلك دعواته، فإنه بكل تأكيد مخطئ، لأن أي إصلاح سياسي لدوائر الحكم يستحيل تحقيقه بغير استيعاب دقيق لما تعنيه الديمقراطية من مفاهيم، وإدراك سليم لديناميكية ممارساتها، وكيفية تفاعلها مع نظم الدولة وومؤسساتها. فالفلسفة السياسية المعاصرة لاتؤمن بالرموز السلطوية، أو العناوين الحزبية التي تتقلد الحكم، وإنما تراهن على ما تؤصله الدساتير من تشريعات ترسم أبعاد المؤسسات الديمقراطية المناطة بها مسئولية تشكيل خارطة العمل السياسي للدولة، وطبيعة توزيع المسئوليات والحقوق عليها..وبهذا فإن البرلمان صيغة مؤسسية، ومن الأولى للمعارضين التفكير بالسبل التي توصلهم إلى البرلمان للأمساك بزمام السلطة ودفة صنع القرار لا التفكير بالسلطة وتجاوز الوسائل الديمقراطية لها، وتجاوز صناديق الاقتراع، والإرادة الشعبية، حيث إن الجماهير لن تقبل بحكومة انقلابية تفرض نفسها بديمقراطية القتل الرحيم، تحت مسمى "ظل" أو "منفى" أو مثلما جرى في العراق لأن ذلك مناف للدستور وللنهج السياسي للدولة ولطموح الشعب.. وإذا ما أعطوا لأنفسهم ذلك الحق فإنهم سيبيحون للسلطة أيضاً حق استخدام إمكانيات الدولة لردعهم فكلا السلوكين يتجاوز إرادة الشعب وفي حال تشريع أحدهما تصح مشروعية الثاني: ومن هنا كان لابد أن يلتفت دعاة الإصلاح السياسي إلى تلك الحقيقة، من أجل أن يتركز اهتمامهم الأول على تنمية تجاربهم الديمقراطية، وترسيخ ممارساتها، وتنمية أداء مؤسساتها، وغرس قيمها في حياة المجتمع، حيث أن مستوى صلاح وقوة أي نظام سياسي لدولة ما مرهون بقوة مؤسساتها الديمقراطية التي تعمل كرديف تقويمي لأداء أجهزة السلطة.. وحتماً أن الإصلاح السياسي للدول ذات النهج الديمقراطي لايكون إلا بمزيد من الديمقراطية.