يتساءل العديد من الناس وخاصة أولئك الذين يعملون بحقول الإعلام والسياسة وذوي الاهتمام بالشأن العام، عن الحراك الإعلامي غير المعتاد وطريقة العرض الذي تمت به مناقشة واستعادة حدث وذكريات هزيمة 1967 أو ما اصطلح على تسميته بنكسة 67م. أما أنا في تقديري إن الأمر لايستدعي كل هذه التساؤلات وكل مافي الأمر أن الوطن العربي قد باتت موجهة إليه أكثر من مائة قناة فضائية علاوة على محطات الإذاعة وغير ذلك من وسائل الاتصال التي باتت في متناول كل الناس.. بمعنى آخر إننا نعيش في ظل ثورة المعلومات، وإن الجامعات والمعاهد تضخ بالمئات من المتعلمين والمثقفين والإعلاميين بمختلف تخصصاتهم، فكان من الطبيعي جداً عند حلول مناسبة كهذه، أن تتناولها الأقلام، أو يتناولها الباحثون والمحللون بأدائهم وأفكارهم لمعرفة كافة جوانبها ومن ثم أخذ العبر والدروس والاستفادة منها في مستقبل الأيام فإلى هذا الحديث الذي كان نتاج لقاء عابر وغير محسوب في مقيل »قات«. بل إنني أرى أن وضع قضايانا على بساط البحث والنقاش وبكل تجرد من أية عواطف أو مجاملات هو عمل صحي وعقلاني ودليل المعافاة قال لي: ماذا يمثل لك يوم الخامس من يونيو حزيران عام 1967. قلت له:كان يوماً أسود الملامح والمضمون بالنسبة لي ولأبناء الجيل الذي ينتمي إليه ذلك الجيل الذي عاش عقدين من الزمن عقب قيام ثورة 32 يوليو وهو يحيا ويعيش في خضم سلسلة من الانتصارات العربية، وشهد فترة الانبعاث القومي الذي كانت مخاضاته في كل من قاهرة المعز وأرض دمشق الفيحاء، ثم جاء هذا اليوم ليسدد ضربة قاصمة للأمة العربية بلغت حتى العظم. قال لي:»لم أفهم المعنى الحقيقي لما تزعم من الانبعاث القومي والانتصارات التي عشتم معها قبل تلك الهزيمة فهلا وضحت لي أكثر؟ قلت له: معك حق لأنك لم تعش تلك المرحلة ،وعلى كل الأحوال اصغ إلي جيداً: فلقد كانت مصر بعد قيام ثورة يوليو 1952 تعيش في أوج عنفوانها، وباختصار كانت تقود مداً قومياً هادراً من خلال امتلاكها لجملة من الإذاعات وعلى رأسها إذاعة صوت العرب، وكان المواطن العربي في أي قطر من أقطار الأمة قلما يستمع إلى عبارات الحرية أو التنديد بالعبودية والاستعمار، وحق كل مواطن بالعزة والكرامة إلخ. وكان صوت العرب هذا مأذنة خطيرة للمناداة بالحرية والمناداة بحق كل شعب بالانعتاق من جلاديه ومستعمري أرضه وسارقي خيراته.. كانت هذه الصيحات إلى جانب الخطابات النارية لقادة الثورة في مصر وفي مقدمة ذلك الخطابات النارية للرئيس جمال عبدالناصر كل ذلك كان كافياً لإلهاب حماس جماهير الأمة العربية وخروجهم إما للمظاهرات أو الدعوة لأي إضراب عمالي من شأنه تعطيل وإيقاف أية أعمال للشركات والمصالح الاستعمارية. قال لي مقاطعاً: ماذا حققت لشعبها.. لشعب مصر.. كلام في كلام؟؟ قلت له: لماذا هذا الاستعجال رويدك فلقد حققت للشعب المصري مايشبه المعجزات فكانت أول عمل قامت به القضاء على الإقطاع الذي كان يمتهن كرامة وآدمية الشعب المصري ثم خطت خطوة أخرى وهي الإصلاح الزراعي ثم مجانية التعليم بعد أن قامت ببناء مئات المدارس والجامعات.. ثم كانت الخطوة الهائلة والجبارة والمتمثلة ببناء السد العالي هذا المشروع الذي وفر لمصر وأرض مصر ثروة مائية هائلة كانت في الماضي تذهب هدراً وتتلف الكثير من المزارع والمحاصيل الزراعية، وأما على المستوى الإقليمي العربي فإن ثورة يوليو قد سارعت لدعم ومساندة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وذلك بدفع أكثر من ثمانين ألف جندي إلى اليمن بكامل عتادهم وعدتهم وقبل هذا التاريخ كانت قد دعمت وساندت ثورة الجزائر البطلة.. وقبل أن أكمل ردي على تساؤلك لابد لي هنا من الإشارة إلى أن مستوى وعينا هنا في اليمن كان محدوداً باستثناء قواعد الأحزاب والتنظيمات السياسية التي كانت تتمتع بقدرٍ من الوعي السياسي وأشما عامة الناس فإن وعيهم كان متدن للغاية، ولكنهم كانوا يتمتعون بروح معنوية عالية جداً الأمر الذي كان تعليق إذاعي واحد من مذيع ومدير محطة صوت العرب يكفي لإخراج مدينة بكاملها عن بكرة أبيها في مظاهرة احتجاج أو في مسيرة صاخبة في وجه أي مشروع مشتبه أو يمس قضايا الأمة والوطن.. إلا أن صوت العرب هذا والوسائل الإعلامية الأخرى لمصر كانت مصابة بحالة من الديماغوجية عند طرح القضايا ومخاطبة الجماهير إلى حد أنه أعلن ذات يوم عن امتلاك مصر آنذاك لصواريخ عابرات القارات مثل الظافر والقاهر إلخ، وفي تقديري إن أغلب وسائل الإعلام بالأقطار العربية ماتزال تستأجر تعاليم صوت العرب فالمبالغة والتهويل عند نقل الحدث، أو الحديث عن أي مشروع من المشاريع تتم بطريقة غير موضوعية،بل إننا في كثير من الأوقات نزيف نشوء وبروز هذا المشروع والظروف المتدرجة والمراحل التي مر بها. ومثل هذا العمل والأعمال الإعلامية من شأنها أن تصيب ذاكرة الشعوب بحالة الانفصام والنظرة المزدوجة للحياة فتارة يندفع المرء إلى الأمام وأخرى ترتد خطوته إلى الخلف علاوة على أن عدم التحري في نقل الأحداث والوقائع اليومية بأمانة مهنية وصدق يعتبر عدواناً صارخاً للحقيقة والتاريخ. ولذلك ياعزيزي فإن ثورة 23 يوليو عام 1952 كانت نقلة نوعية بالمنطقة العربية وأخذت تتآمر عليها معظم الدول الغربية لأنها جاءت تستهدف استرداد حقوق العرب وتهدد المصالح الغربية. التفت إلي قائلاً بحدة: »أنا أطلب منك أن تشرح لي أسباب الهزيمة وأنت تعرج بنا على ثورة يوليو؟. قلت له عندما نتحدث عن أسباب الهزيمة، فلابد من التصدي بالحديث عن ثورة يوليو، ومن ثورة يوليو ورجالها الذين قادوها سنعرف الكثير من الأسباب، فأعضاء مجلس قيادة الثورة لم يكونوا ينتمون إلى حزب واحد، أو مدرسة سياسية معينة، ،لذلك كانت هناك تباينات شتى بالروئ ووجهات النظر المختلفة، وهذه التباينات تعكس نفسها، وتترجم بسلوك أي واحد من أعضاء القيادة، فعلى سبيل المثال نأخذ ملف مساندة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، هذا الملف كان اثنان من كبار أعضاء مجلس قيادة الثورة هما المسئولان عن كل ما كان يجري باليمن وهما: المشير عبدالحكيم عامر وأنور السادات.. فكيف كانت تدار الأمور باليمن سواءً أكانت مايخص شأن الجيش وقتال الملكيين أم مايتصل ويتعلق بشأن إدارة شئون الثورة اليمنية؟ وأنا هنا فقط أذكر لا أخوض فيما حدثت من أخطاء راح ضحيتها العشرات والمئات من الجنود المصريين واليمنيين مع تقديرنا وإجلالنا لأولئك الشهداء الأبطال رحمة الله عليهم. ولا أريد الدخول بالتفاصيل فذاك يتطلب جهداً وبحثاً أكبر وأطول من هذه العجالة وإذا انتقلنا إلى الوضع الداخلي المصري آنذاك فلا ريب أن في جوانب التنمية والإعمار كانت هناك حركة متطورة لبناء قاعدة صناعية قوية.. وفي جانب آخر للوضع الاجتماعي كان هناك جلاد اسمه »صلاح نصر« أرهب البلاد والعباد إلى حد أن المواطن المصري احتار بين ما كان يجري، وبين توجهات الرئيس جمال عبدالناصر التحررية وخطبه البليغه الداعية إلى الحرية وعبارت »ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد« وفي نهاية المطاف عبدالناصر إنسان وبمفرده لايمكن أن يضع كل شيء.. كذلك هناك أسئلة لو تم الحصول على أجوبة لها لاستطعنا أن نحصل على أهم أسباب النكسة والهزيمة التي لحقت بالأمة العربية، واحتلت إسرائيل خلال تلك الحرب الخاطفة والمدمرة صحراء سيناء واحتلت كذلك مدينة القدس ومنطقة الجولان والقنيطرة بسوريا، ونحن عندما نستعيد إلى أذهاننا ماحدث في تلك الأيام السوداء فلابد أن نتذكر أن جزءاً كبيراً من الجيش المصري كان مايزال في طريق عودته من اليمن علاوة على انه لم تكن لديه خطة كما يفيد الخبراء العسكريون، خطة لمواجهة العدو وغير ذلك من الأمور المتصلة بحياة ونفسية الجندي المصري الذي كانت تتمزق مشاعره من تصرفات قادته بالميدان.. فقد لاحظنا نحن هنا باليمن ان الجندي المصري كان يتعرض لمهانات من قبل الضباط والقادة لايجوز بأي حال أن تمارس تجاه جندي منوط به الدفاع عن حرية الوطن وسيادته. هذا فيما يتصل بالتعامل مع الجندي بالميدان.. وتفيد بعض المصادر أن مصر لم تكن تنوي الدخول في حرب مع اسرائيل وإنما كان تهديداً فقط، إلا أن هذا القول يتنافى وتصريحات الرئيس جمال عبدالناصر قبيل الحرب بثلاثة أيام وطلبه من القوات الدولية التي كانت مرابطة بمنطقة »تيران« الانسحاب.. ويرى بعض المراقبين أن هناك خلافاً محتدماً كان يوم ذاك بين الرئيس جمال والقائد العام للقوات المسلحة المشير عبدالحكيم عامر. ومهما يكن من أمر فإن تقديراتي إن هناك تنسيقاً وتعاوناً تاماً كان قائماً بين الاستخبارات الإسرائيلية والدوائر الغربية ممثلة بالغارات وكانوا يقومون برصد ومتابعة كل مايجري بداخل مصر وخارجها وبكامل أقطار المنطقة بما في ذلك أوضاع القوات المسلحة وبدون شك أن مثل هذه المعلومات كانت ترسل فوراً إلى تل أبيب وأثناء المعارك تقوم بعض القطع الحربية المرابطة بالمياه الإقليمية لتزويد إسرائيل بالمعلومات المطلوبة عن تحركات القوات العربية. والحقيقة إن هناك جملة من أسباب النكسة والهزيمة وأهمها أسباب ذاتية تتصل بالحسابات الخاطئة وتقدير الموقف الذي أعطى للعدو المبادرة بالضربة الجوية التي دمرت القوات الجوية.. وعلى كل حال فإن الجيش المصري قد استطاع بعد ذلك أن يستفيد فائدة كبيرة مما حدث ويعيد بناء قواته على أكمل وجه، ويقوم بضربته الموفقة بتدمير مواقع العدو واستعادة كامل أراضيه، فكان بذلك اليوم المجيد يوم السادس من أكتوبر عام 1973 قد حقق انتصاره الفريد، فاستعاد بذلك الانتصار ثقته بنفسه وبوطنه وأمته.. وإذا كان العدو الإسرائيلي قد انسحب من أرض سيناء إلا أنه مايزال يحتل أجزاءً أخرى منذ عدوانه عام 1967 وأهمها مدينة القدس والجولان السورية. هذه الأراضي لم ولن تنعم إسرائيل بالأمن والسلام إلا إذا انسحبت منها وإذا كانت قد فوجئت في جنوبلبنان بتلك المقاومة الباسلة للشعب اللبناني الذي ألحق الهزيمة والعار بالجيش الإسرائيلي فإنها قد تفاجئ بما هو أعظم من ذلك بمستقبل الأيام إذا ما استمرت في تماديها وصلفها في احتلال أرض العرب.