من فلسفة الاستعمار (القديم) بجيوشه الجرارة، إلى فلسفة الاستعمار (الحديث) المرتبط بالاقتصاديات العالمية، ينتقل العالم العربي مجدداً إلى لون جديد من الغزو الاستعماري المرهون بالحروب (الثقافية)! حملة الثقافة العصرية طالبوا العالم العربي بالتحرر من (نظرية المؤامرة)، ورموا ثقلهم للسخرية من أولئك المتحدثين عن المؤامرة الأمريكية،أو الأسرائيلية، أو الغربية.. وكانوا محظوظين جداً إلى الدرجة التي ترسخت القناعة لدى الوسط الإعلامي والثقافي العربي، وباتت معظم أقلامنا ترّوج للخطاب ذاته كلما جرى الحديث عن علاقات دولنا العربية - الأمريكية - الإسرائيلية. لكن بالمقابل انتقل فيروس المؤامرة إلى علاقاتنا البينية من غير أن يواجه أية صعوبة في ترويض الأقلام على أن الآخر المختلف في الرأي، أو المذهب، أو المنطقة الجغرافية هو أحد حلقات مؤامرة خبيثة. واقعنا العربي اليوم يؤكد أن أية ثقافة سلبية قادرة على الاستشراء بسهولة في المجتمع، وتلقي قبولاً كبيراً عند حملة الأقلام لترويجها.. فقد كان من السهل على العالم الترويج لفكرة أن اليمن بلد إرهابي لمجرد تورط عدد من أبنائه في أحداث سبتمبر.. والعجيب أن تظهر أقلام يمنية متخصصة لترويج كل مامن شأنه إقناع الخارج بنفس الفكرة. إلاّ أننا عندما أصبحنا بحاجة إلى الترويج لإيجابياتنا الديمقراطية والتنموية ولجهدنا في مكافحة الإرهاب لم نجد الكثير من المتحمسين للخوض في هذه الأمور.. وبنفس الطريقة يمكن القياس إلى مختلف شئوننا الأخرى التي يمكن أن تولد في النفوس الطمأنينة حول الأمن والسلام في مجتمعنا. ويبدو أن الأمر غير مرتبط إطلاقاً بساحة بعينها.. لأننا حتى عندما نتناول الشأن العراقي نجد أنفسنا غارقين في الأخبار المؤججة للفتنة المذهبية، وعندما ادعت إحدى النساء بأنها تعرضت لاغتصاب من قبل أفراد الشرطة لم يبق منبر إعلامي إلاْ وأفرد لها الصفحات، وسلّ سيوفه... لكن حيث ثبت زيف الادعاء وأن تلك السيدة متزوجة رجلين في وقت واحد، وأنها تقوم على خدمة جماعة إرهابية.. لم يجد الأمر من يقول الحقيقة، ويتراجع عن رأيه وموقفه السابق.. فكان ذلك مدعاة لبقاء نار الفتنة متأججة. قرأت أمس مقالاً جميلاً للزميل طه العامري حول أوضاع العراق، وأحسست بأوجاعه الإنسانية النبيلة وهو يئن من ثقافة القتل.. لكن - للأسف - سرعان ماوجدت أحد العراقيين يكيل له السباب والاتهامات المختلفة.. وبصراحة وقفت مذهولاً، وعاجزاً عن الجدل أمام هذه الثقافة التي عندما لايروق لها رأي فهي تحول صاحبه إلى عميل، ومأجور وأحياناً تفتي بكفره. اليوم يسود مجتمعاتنا العربية هذا النمط من دعاة (الثقافة) وحملة الأقلام.. وبتقديري أن مثل هؤلاء هم الذين يتحملون وزر كل مايحدث من عنف في عالمنا.. فهؤلاء لايؤمنون بحق الآخر في التعبير عن رأيه، أو بحقه في أن لايقف في صف المحتل، ويقاوم فتن الاحتلال، ومؤامراته، وبطشه، ودناءة أساليبه.. بتقديري إن الكاتب الحقيقي هو الذي يتعامل مع كل موقف بمقتضياته، فيثني على هذه الجهة عندما تأتي بفعل يستحق الثناء وينتقدها عندما تسيء أو تخطىء.. فليس على أرض الواقع عالم إفلاطوني معصوم من الأخطاء .. وأن التعصب وافتراض العصمة هو الفتنة بعينها التي تجرنا اليوم إلى محارق عربية في كل مكان.. لقد أعجبني كثيراً ذلك الأسلوب الذي تناول فيه الزميل العامري الوضع العراقي من غير أن يرد على لسانه وصف(سني /شيعي) وهذه حالة نادرة في كتاباتنا.. فالوعي بخطورة ماهو محدق بعالمنا يستوجب منا جميعاً الترفع عن الأحكام المطلقة، وتقتضي من كتابنا توخي الحذر من الانزلاق في منحدرات الحرب الثقافية التي تحول الكاتب إلى رصاصة تشعل حرباً، وتؤجج فتنة، وتضيع حقاً، وتنصر باطلاً. إن مهمة المثقف العربي أصبحت صعبة للغاية، وأن حياته أصبحت لأول مرة في خطر عظيم.. لأنه يضع نفسه بمواجهة مؤامرات دولية، وجماعات متشددة، وعصبيات مختلفة.. وأناس دمويين لايفرقون بين ذبح الانسان وذبح دجاجة.. وأعتقد أن مجتمعاتنا باتت أمانة في أعناقنا نحن حملة الأقلام والرأي والخبر.. فصناع الرأي في الدول المحترقة بالفتن هم وحدهم من يكفل ديمومة الاحتراق.. فالعالم تحول إلى أكبر صناع الإشاعات، وبلداننا صارت أكبر أسواقها، فيها دعاة السلام أصبحوا كالعملة الصعبة.