الحوار نعمة من نعم الله على الإنسان، فقد جعله اساساً مهماً في قيام اتصال فاعل بين الانسان وذاته وبينه وبين الآخرين، والقارىء للقرآن الكريم يجد الحوار لغة مبثوثة في كثير من المواضع القرآنية، وبنصوص كريمة واضحة وذات دلالة لاتقبل التأويل، غير ذلك القصد الذي جاء عليه النص القرآني حيث نقرأ حوار الله سبحانه وتعالى مع الملائكة حول خلق آدم عليه السلام. حيث قال : «إني جاعل في الأرض خليفة» وكان رد الملائكة «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك» وحواره جل وعلا مع إبليس اللعين حين أمره سبحانه وتعالى بالسجود لآدم ففسق عن أمر ربه، متحججاً بطبيعة الخلق له ولآدم عليه السلام، وكذا حواره جلت قدرته مع آدم عليه السلام وحواره مع الانبياء، وحوار الأنبياء الذين ارسلهم سبحانه وتعالى برسالات الهداية والتسليم لله، مع الجبابرة والطغاة. وهكذا نجد أن الحوار ملمح مفصلي من ملامح المنهج الاسلامي، يستقيم وطبيعة الخلق ، والعلة من تنوعه ووجوده، وهي علة التعارف ومن ثم التمايز بالتقوى «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عندالله أتقاكم» ولهذا كانت اللغة المخزون العظيم الذي حمل الحوار وحقق معانيه وصار لازماً من لوازم الحياة وأساساً ضرورياً للبناء الانساني والسير به نحو النهوض والعمران. هذه الحقيقة، تفرض علينا الوقوف بعقلية علمية ونوايا مخلصة، وإرادة صادقة، وآفاق مفتوحة، وصدور رحبة، على واقعنا والتأشير على مواطن الخلل، وعلينا أن نعترف أننا لم نمتلك اساليب الحوار المخلص، ولم يكن الحوار في مرحلة من المراحل مطلوباً لأغراض التأسيس لعمل سياسي وعلى أساس واضح من الاتفاق والتفاهم على قواعد وضوابط ومعايير تستوعب المصلحة العليا للوطن، وتستهدف فتح سبل التنافس الشريف النزيه، الذي يتيح فرص تقديم أفضل مالدى الجميع من أفكار ورؤى برامجية تخدم المسيرة وتنقلها نقلات نوعية تتحقق من خلالها الطموحات المنشودة. إن الاوطان، ومستقبل الأجيال ، وحماية الحاضر، والحفاظ على التاريخ، وعلى المكتسبات التي تحققت، تستأهل ان تجرب الاطراف المتباينة في الرأي والرؤية في التعاطي مع الشأن السياسي وفي طبيعة الإدارة وأساليبها للتنمية والموارد.. فالتنازلات ومغادرة مواقف التمترس والرفض للرأي الآخر هي المطلوبة، لأن الأوطان فوق كل منهم فيها وعليها، فلها ولأجلها تقدم التضحيات وتبذل الأنفس والأرواح فداء ودفاعاً وبالتالي فالكرامة هي الوطن، والكبرياء هو الوطن، والعزة هي الوطن، حيث لن يكون لأي شخص أو جماعة أو تنظيم كرامة إذا أهدرت كرامة الوطن، وهكذا لايمكن أن يدعي أحد من المواطنين اعتزازاً بالذات واعتداداً بها بكبرياء، ما لم يكن الوطن عزيزاً، متماسكاً، ويمتلك أسباب الاعتداد بقراراته، ويقف على قدرة وقوة تمكنه من التعامل مع الغير بندية، وكبرياء تحترم الذات والآخر، كبرياء لا يجعله مستباحاً، وساحة يصول فيها وعليها الاعداء والخصوم من خارجه، بل تجعله مستقلاً متمتعاً بسيادته وقراره وإرادته. تأسيساً على ماسبق، فإن الدعوة إلى الحوار هي دعوة لحماية الوطن، واجراء الحوار عمل يستقيم مع سنن الله في الخلق، فلا يمكن أن يكون الجميع متماثلين ومتطابقين بالرأي والرؤية. فالتماثل.. والتطابق.. في الجنس البشري، يخالف سنة الخلق القائمة على التنوع والاختلاف ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة فالمشيئة ارادت أن يكون بنو آدم مختلفين.. فخلقهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا.. وهكذا يمكننا القول إن التعدد في المواقف، ووجهات النظر يستقيم مع العلة من الخلق وهي التعارف، والتمايز، والتكريم، « إن اكرمكم عندالله اتقاكم.». ومع هذا الناموس الدقيق في المنهج الاسلامي إلا أنه لايترك هذا المنهج الرباني الباب مفتوحاً بأي درجة أو مستوى للتناحر، والتمذهب، والعصبيات، والانغلاق بل يغلقه تماماً، ويضع في موضعه «الحوار» الذي يحقق التعارف، ويؤدي إلى التفاهم وينتج التعايش والوصول إلى المشترك الذي يجمع الفرقاء ويجعلهم يقبلون بعضهم، ومن ثم يمدون جسور التقارب والعمل المشترك فهل نرى ذلك واقعاً نعيشه ونتعايش معه. والله من وراء القصد.