على مدار الثماني السنوات الماضية اختلطت معالم المشهد السياسي اللبناني، واشتبكت داخله مصالح أطراف كثيرة محلية وعربية ودولية، وتداخلت ضوضاء خطابات إعلامية نزقة لفرقائه المتشاكسين، وتزاحمت برامجهم وفعالياتهم القابلة للاشتعال في ساحة صغيرة جداً تسمى لبنان، ونتجت كثير من المفارقات العجيبة في شعارات ومواقف الإخوة الأعداء ابتداءً بانتهاج حوار الطرشان ولعبة عض الأصابع إلى التراشق بالخطب والمؤتمرات الصحفية إلى التراشق بالرصاص، إلى الجولات الخارجية المكوكية، إلى انغلاق كل أبواب المخرج، والوصول إلى حافة الهاوية الجماعية، ثم عودتهم للقبول بمبدأ اللقاء والحوار ولو على مضض تحت مظلة الجامعة العربية، ثم الهبوط الاضطراري لكبريائهم في دوحة قطر المضيافة، وأميرها الحازم الذي وضعهم أمام خياراتهم الحتمية ولم يتركهم حتى أعاد جمع شملهم تحت قبة برلمانهم الحزينة منذ أكثر من سنة ونصف، ولم يتركهم حتى قاموا بانتخاب رئيسهم التوافقي بالإجراء المنتظر والمرحّل منذ ستة أشهر، والذي أنجزوه في نصف ساعة. وفي هذا الحيز سأحاول - إن شاء الله - التقاط أهم العناصر الداخلة في تكوين المشهد القائم، ومن ثم سأحاول استخلاص العناصر الجديدة التي أعتقد أن استيعابها سيساعد كثيراً ليس فقط في فهم ما آلت إليه الأمور أخيراً، بل في استقراء ملامح المستقبل. لا شك أن للأزمة اللبنانية القائمة بذورها وجذورها وشجاراتها المحلية الصرفة المتمثلة بالصراعات القديمة / المتجددة بين زعماء الطوائف والمجاميع الحزبية على مصالحهم الشخصية والأسرية، والذين أصبحوا مع الوقت مقاولين محترفين دأبوا على استثمار تهافت القوى الإقليمية والدولية على تأمين مواطئ لأقدامها في هذه البقعة الحيوية الاستراتيجية من المنطقة العربية. وقد أثبتت الأيام أن هؤلاء العتاة مستعدون للتحالف مع الشيطان في سبيل أنانياتهم، وأنهم مستعدون لاستخدام كل ما هو متاح وممكن من السلاح بما في ذلك الطائفية (سلاح التدمير الشامل). أولاً: مدخلات قديمة وإن تبدت بشكليات مستجدة : لا جديد في أن لبنان يعيش منذ عدة سنوات أزمة كبرى شديدة الخطورة والتعقيد، فلبنان منذ استقلاله وحتى من قبل ذلك لا يكاد يخرج من أزمة حتى يدخل في دوّامة أزمة أخرى.. ولا جديد في حدوث العديد من الاغتيالات الخطيرة المدوية التي كان أحد ضحاياها رمز كبير من رموز لبنان.. كما لا جديد في أن كل هذه الاغتيالات لم يعرف لها غريم إلى اليوم، فقائمة الاغتيالات المدوية في لبنان طويلة وممتدة زمنياً منذ بداية تاريخه الحديث، وللأسف جميعها لا تزال مقيدة ضد مجهول. ولا جديد في أن الأنظمة العربية عموماً متورطة بشكل أو بآخر في نشوء وتفاقم الأزمة الحالية، وأن بعضها يسعى مع قوى من الداخل اللبناني إلى تدويل ملف هذه الأزمة، فمعروف أن الأنظمة العربية جميعها كانت ولا تزال مشاركة أساسية في إنتاج أزمات لبنان من قبل ومن بعد قيام الجامعة العربية وإن بدرجات متفاوتة.. أما بالنسبة للتدويل فتكفي عبارة نبيه بري - رئيس مجلس النواب: «التدويل آخر همِّنا».. معللاً أن قضية لبنان «مدوّلة منذ ثلاثين سنة».. وذلك في معرض ردِّه على كلام عمرو موسى - أمين عام الجامعة العربية - المتخوف من انزلاق قضية لبنان إلى التدويل. ولا جديد فيما ظهر من عجز الولاياتالمتحدةالأمريكية عن التدخل العسكري كما هو دأبها في الكثير من المناطق التي تهم مصالحها الحيوية وأمنها القومي.. فهذا العجز قديم أيضاً منذ كارثة جنودها في لبنان في منتصف السبعينيات. ولا جديد كذلك في تخليها عن حلفائها اللبنانيين، وإن بدا مفاجئاً وغريباً لكثرة الخطب والبيانات والتصريحات التي صدرت عن الرئيس بوش وعن الكثير من رموز إدارته، فالحقيقة أن خذلان الولاياتالمتحدة لحلفائها المخلصين سلوك مشهور، فما أكثر حلفاءها في المنطقة وفي العالم الذين تخلت عنهم وتركتهم يواجهون مصائرهم البائسة بعد أن تحترق (كروتهم)، لاسيما حين يخفقون في إنجاز مهمات كبرى أنيطت بهم أو التزموا بها. ثانياً: العناصر والحقائق الجديدة في المشهد اللبناني: هناك عدد من الحقائق الجديدة أعتقد جازماً أن حضورها القوي وتفاعلاتها داخل المشهد اللبناني قد حال دون تمرير وإنجاح مشروع دولي (وإقليمي) كبير لتصفية المقاومة اللبنانية وإلحاق لبنان كدولة بقطار السلام والتطبيع وفقاً لرؤية قادة الإدارة الأمريكية من المحافظين الجدد. الحقيقة الجديدة الأولى: أن إسرائيل تلقت عدة صفعات متوالية ومتصاعدة في قوتها وإيلامها بعمليات فدائية جريئة أثمرت عن أول انسحاب صهيوني اضطراري غير مشروط من أرض عربية، وأن الذي جرعها هذه المهانة ليست جيوش دول الطوق والصمود والتحدي، بل منظمة حزبية مجمل قوامها العسكري بضعة آلاف من المقاتلين هم أنفسهم أو بالأصح مئات منهم تصدوا في صيف 2006م لمدة أربعة وثلاثين يوماً لكامل القوة الضاربة الجوية والبحرية والبرية للجيش الصهيوني وجرعوه هزيمة نكراء مدوية بكل المقاييس. الحقيقة الثانية: أن الكيان الصهيوني قد استنفذ طاقته المعنوية بعد أن انقرض زعماؤه المؤسسون، وبعد أن وصل التدهور مستوى صارخاً متجسداً بحكومة أولمرت الضعيفة الموصومة بالفساد. الحقيقة الثالثة: أن سوريا قد صمدت بقوة منذ سنوات طويلة في وجه الضغوط الهائلة والإغراءات الكبيرة التي أرادت دفعها إلى تصفية المقاومة اللبنانية، وإلى فك الارتباط بإيران، وقد وصلت الضغوط إلى التهديدات المباشرة بالعدوان عليها، ووصلت الإغراءات إلى التلويح بإمكانية إعادة الجولان إليها. الحقيقة الرابعة: بروز إيران كقوة إقليمية كبيرة ومؤثرة، ودخولها كطرف مباشر في الصراعات الإقليمية عموماً، وفي الشأن اللبناني على وجه الخصوص لصالح حزب الله وقوى المعارضة اللبنانية. الحقيقة الخامسة: عجز الولاياتالمتحدة عن ممارسة أي تدخل عسكري في لبنان نتيجة لعدة عوامل، أهمها ورطتها الكبيرة في العراق وفي أفغانستان، وخسارة بوش والجمهوريين للأغلبية في البرلمان وفي مجلس الشيوخ لصالح الديمقراطيين المعارضين ومعهم غالبية الرأي العام الأمريكي لمغامرات بوش العسكرية. الحقيقة السادسة: قوة وتماسك المعارضة اللبنانية عموماً بقيادة حزب الله، وأداؤها السياسي والإعلامي المحترف.. ولابد من الإشارة هنا إلى حقيقة جديدة متمثلة بامتلاك المقاومة والمعارضة قنوات إعلامية مستقلة كان لها دور فاعل في إدارة المواجهة. عبارة (لا غالب ولا مغلوب) تعني غير مسموح لأي طرف أن يلغي الطرف الأخر.. لكنها لا تعني بالضرورة «لا لاطم ولا ملطوم»، ف«الملاطمة» كانت ولا تزال وستستمر سيدة الموقف في علاقة (الفرقاء) كما يسمي اللبنانيون أنفسهم.. وعلى هذا الأساس إذا فرزنا «الملاطيم» المتبادلة بين السلطة والمعارضة فأعتقد أن فريق الموالاة قد تلقّى العدد الأكبر والأثقل منها، ليس فقط من خصومه المحليين بل أيضاً من حلفائه الخارجيين، والسنيورة لم يبكِ في الماضي من فراغ ولا تزال أمامه مهمات ثقال بعد أن كلِّف من جديد بتشكيل حكومة اتفاق الدوحة. وأخيراً.. إذاً كان اتفاق الطائف قد نجح في ترتيب إطار مرجعي لموازين القوى في لبنان بظهير إسنادي عربي قوي تمثل بالمملكة العربية السعودية، وبواجهة تنموية كبيرة تمثلت برفيق الحريري، فماذا في جعبة دولة قطر وأميرها من جهة والجامعة العربية من جهة أخرى لرعاية وتطوير وضمان استمرارية الاتفاق الجديد؟