تتخذ مفردة «الدين» لدى كثير من الناس دلالة حضرية رديفة لمناسك العبادة، بل يتطور الأمر لدى البعض ليتحول الدين إلى شأن منفصل، وقائم بذاته، ولا يتداخل مع أمور الحياة الأخرى بما فيها العلم !! إن الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة، والاقتصاد، وغيرها من العلوم والشئون يحسم الجدل فيها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن «الدين المعاملة» وبالتالي فهو سلوك، وثقافة يتحلى بها المرء، ويتخذها كضابط لممارساته اليومية، وإلا ما جدوى أن ننظر بقدسية عظيمة إلى كتاب الله «القرآن الكريم» إن لم نجعل نصوصه دليلنا في التعامل، والتفكير، والتخطيط للمستقبل .. ! قرأت قبل أيام كتاباً للشيخ عبدالمجيد الزنداني، حول علم «الأجنة» فوقفت مبهوراً أمامه، ومندهشاً من الطريقة العلمية الدينية التي قام من خلالها الشيخ الزنداني بشرح تكوين الجنين في بطن الأم، ومراحل تطوره، وتفاصيل تشريحية كثيرة استلهمها من القرآن الكريم، .. ففكرت حينها: يا ترى كم من العلوم والمعارف التي حملها ديننا ومازلنا عنها غافلين !؟ وما بال بعض علمائنا انشغلوا بسفاسف الأمور، وأمضوا العمر يجادلون في أي يدٍ نلبس الساعة، وحرمونا من هذه الثروة العلمية الهائلة التي تضمنها ديننا الحنيف !؟ في الأعوام الأخيرة، وبالذات الألفية الثالثة، دخلت مساجدنا حقبة جديدة كانت أبرز ملامحها هي إفراغها من وظيفتها الأساسية والتفرغ لقضايا لا طائل منها غير حسابات شخصية وفئوية.. ففي فترة ما صار الهم الوحيد لقسم كبير من الخطباء هو الحديث عن حوار الحضارات، واحترام الشعوب من أرباب الديانات واللغات المختلفة، في الوقت الذي كان بعض من يعنونهم يهتكون اعراض المسلمات، ويرتكبون المجازر بحق عدد من الشعوب المسلمة..! بل إن المفارقة هي أننا لم نكن نجد من يحث أبناءنا على حب بعضهم البعض الآخر، والتوادد والتراحم، بنفس الحماس الذي كان يجري فيه الحديث عن حوار الحضارات. وفي حقبة ثانية وجدنا خطباء المساجد قد حزّبوا المساجد، ولم يعد خافياً على أحد بأن هذا مسجد «المؤتمر» وذاك مسجد «الإصلاح» وغيرهما مسجد الحزب الفلاني، فصار أبناؤنا يخرجون من هذه المساجد مثقلين بهموم السياسة، ومناكفاتها الحزبية، والغمز واللمز الذي يتراجم به الخطباء من على المنابر.. وهو المشهد الذي من المتوقع ان يزداد وضوحاً مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية كما اعتدنا ذلك في كل موسم انتخابي. وهنا اتساءل : ألا يعتقد علماؤنا الأفاضل بأن كل ما يصيب مجتمعنا اليوم من رذائل وبلاء سببه انحراف المسجد عن وظيفته الأساسية، وانشغاله بغيرها !؟ ألا يعتقد علماؤنا الأفاضل ان هذا الجيل الناشئ يعاني من فقر شديد للمعرفة الدينية المبنية على أسس علمية والتي من الممكن ان تحصنه من الكثير من المخاطر الثقافية المتربصة به !؟ فإذا كنا نؤمن أن «الدين المعاملة» فلماذا إذن لم يتم غرسه في نفوس أبنائنا بقيمه، وأحكامه، ونصحه وإرشاده، بدلاً من ان يبقى مجرد شعارات، ومظاهر، وادعاءات نزايد بها على بعضنا البعض في الوقت الذي واقعنا المؤلم يقف شاهداً على زيف ما ندعيه.. ألا يجدر بخطبائنا وأئمة مساجدنا الحديث لأبنائنا عن الأسرار العلمية التي حملها القرآن، ليثقوا بأن الدين ليس مجرد كتاب مقدس وحسب وإنما علم، ونور، وهداية، وثقافة، لابد من ممارستها في حياتنا اليومية .. !