الإعلاميون في زهاء عقدين من الزمن ظلوا يترقبون صبح البعث الذي يشعرهم بأنهم حملة فكر وصُنّاع معرفة.. ينالون من الحقوق ما يؤكد صوابية هذا التصور، فالتوصيف الحقيقي والعميق للمهنة الإعلامية يظهر أن صناعة الإعلاميين للمعرفة أو الرسالة الاعلامية والقيام على ضبطها ونقدها وظيفة أكثر قرباً من غيرها للوظيفة الأكاديمية، مع الأخذ بالحسبان أن صناعة الإعلامي دائماً ما يؤثر فيها عامل السرعة، واستقواء الصحافة المهنية على الصحافة الأكاديمية فتطيش أيدي الكتاب في صحفة المنهج وتقتحم الذاتية أسوار الموضوعية والعكس، وغير ذلك مما يجعل القياس - حتماً - قياساً مع الفارق بين الوظيفة الصحفية والوظيفة الأكاديمية، فإن كان يجمعهما الهدف التنويري والعمل من أجل النهضة الثقافية وتنمية الوعي المعرفي والوصول إلى الحقيقة فإن مما يفرقهما أن الصحفي اليوم أكبر صوتاً، وأعمق التصاقاً بشريحة المتلقين، ودوره يسبق دور أي مثقف آخر، لاسيما في المجتمعات التي دخلت متأخرة مساحة الضوء، وأمامها لكي تمخر عباب التقدم كثير من الشعب المرجانية التي يتمترس فيها الجهل والعادات والتقاليد وقلة الإمكانيات. وعموماً فلم يكن مقصدي هذه المقارنة التي أراني انجررت إليها لا إرادياً، وأرجو ألا يعني هذا الاستطراد رغبتي في الانتقاص من وظيفة الأستاذ الجامعي وتنزيله منزلة من دونه، فإن لي أساتذة كثيرين قد يبادرون إلى محاكمتي محاكمة علمية واتهامي بأنني أحاول أن أرتقي برجل الإعلام مرتقى صعباً، وأخوف مما أخاف أن ينضم إليهم إعلاميون تربطهم بالعمل الأكاديمي روابط وشيجة، وعلى سبيل المثال فمؤسسة «الجمهورية» التي أعمل فيها يتسنمها الأستاذ سمير رشاد اليوسفي - رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير - الذي كان في يوم ما عضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات اليمنية.. «اللهم لطفك.. !!». المهم أن عين الصواب أن الصحفي يمارس مهنة تتطلب الدراية والمهارة والتفكير والجهد العضلي الكبير، وهذا يجعله حقيقاً بالاهتمام والرعاية الخاصة القريبة ولو من جهة واحدة بما يتحصل عليه أستاذ الجامعة اليوم، مع الأخذ بالاعتبار أن الصحافة العربية في بدايتها انسلت من عباءة الأساتيذ ونهضت مع الأدباء والأكاديميين، فهما - أي الصحفي والأكاديمي - أبناء عمومة إن لم يكونا أخوين من الرضاعة. وعودة إلى صلب الموضوع، فالصحفي اليوم - وليعذرنا إن كنا قد أقحمناه في مقارنة لايفكر بها- كان قد بدأ يستعيد أحلامه ويتذكر أقاصيصه التي كان يتحف بها مجلس الأسرة عن الكادر الإعلامي والتوصيف الوظيفي. ومن الطبيعي القول: إن مشروعاً كهذا ظل حبيس أدراج الحكومات المتعاقبة سنين عدداً فاستدعى موجة عارمة من الدهشة اطلقت العنان للأحلام، وحب الانتظار، و هو مايعني أن مشروع الكادر الإعلامي والتوصيف الوظيفي كان يجري حوله إقرار مبدئي أو اتفاق بين الجميع - الحكومات ومجالس النقابة وشريحة الإعلاميين وكل من له اهتمام بهذا الأمر - يتفقون على أن الكادر الاعلامي مشروع لإحداث نقلة نوعية في حياة منتسبي الصحافة والإعلام لما يحتويه من امتيازات مادية تكافىء المتاعب وطبيعة العمل الصحفي المحاصر بلهاث دائم وراء المعلومة وما يصحب ذلك من مراحل حتى يتم تقديمها بين يدي القارىء. لكن الذي حدث لم يكن متوقعاً.. لقد اختتم الراوي قصة الكادر الإعلامي بنهاية مفتوحة، متشظية، ربما يتطلب معها وقتاً إضافياً آخر - قد يكون أشهراً أو يمتد لسنوات حتى يأتي يقول : هذا مشروعكم أيها الإعلاميون بنسخته الأصلية «واحذروا التقليد.. ». كان إلحاح فخامة الأخ رئيس الجمهورية - حفظه الله - على إيلاء هذا الموضوع أهمية كبيرة، وتوجيهه الصريح باحترام مطالب الإعلاميين والتوصل إلى حل مناسب بشأن مشروع الكادر الإعلامي، كان قد أعقبه تسارع واهتمام، فبدأت جهات كثيرة ورجال كثيرون يلقون بأقلامهم أيهم يكفل هذا المشروع، وهذا شحذ همة الصحفي للانتصار لذاته ولصنعته الثقافية والخروج من ربقة الديون والأزمات المالية التي تزاحم بعضها بعضاً، فبدأ يلقي - هو الآخر - بقلمه يخال أنه سينقلب حية تلقف مايؤفك أصحاب الإيجارات والبقالات ومتطلبات الأبناء وهموم المواصلات، لكنه عاد متكسراً حين بقي القلم هو القلم، شاحباً وخطه باهت، يكتب وكأنه ينحت من صخر.. والصحفي هو الصحفي أشعث أغبر.. مدفوع بالأبواب.. لو أقسم بالله ألف مرة لن يمهله «صاحب البيت» يوماً واحداً حتى يدفع «الايجار».. فالذي حدث أن الكادر تمخّض فولد «كويدراً » قصير القوائم، وبسبب ذلك فقد كان كثير من المتطلعين يظنون أن الصحفيين بعد أن يسكت عنهم الغضب سيلقون بالألواح ويأخذون بلحية نقابتهم وبرأسها.. لكن لم يحدث شيء من ذلك، لأن النقابة أوضحت أن الإعلاميين قد بُدِّلوا كادراً غير الذي قدموه، وما عليهم اليوم إلا أن ينفروا خفافاً وثقالاً بحثاً عن الحق وانتصاراً لمصداقيتهم أمام الندامى وأمام أفراد أسرهم حتى لاتصبح تلك الأحاديث والأمنيات قصصاً من الأدب الشعبي كالتي تحكيها الأمهات لأطفالهن قبل النوم. ولذا، فالأيام كفيلة بكشف ما سيتمخض عنه إصرارهم.. لاسيما بعد اعتزام الحكومة اليوم إعادة الوقوف أمام هذه القضية.