كل الوصايا والمواعظ والكثير من السلوكيات والمبادئ تسقط في لحظة واحدة من غير سابق إنذار أو مقدمات، أو يجري التمرد عليها ومعاداتها لأول الأسباب التي تُختبر فيها الإرادات وصدق النوايا والتوجهات.. ثقافة من هذا النوع أصبحت وأمست سائدة في مجتمعاتنا، أحاديث كثيرة لا تسمع فيها غير المثاليات والوصايا والمواعظ والدعوات الجميلة لقيم أجمل، لكن لا شيء يصح منها وقت الجد والصدق، كل شيء يتغير فجأة وتطل مواقف لا علاقة لها بما سمعت من ألسنة الناس. كل شيء يبدو على النقيض في الواقع.. الإيمان بالديمقراطية يتبخر مع فرز آخر بطاقة انتخابية حين تبدو النتيجة على غير ما يتوقع البعض أو على غير ما كان يرجو، وكثيراً ما تتبخر الروح الديمقراطية في وقت مبكر حين تكون المؤشرات كافية على الخسارة، من تلك اللحظة تحل روح ديكتاتورية حاقدة على الجميع وكارهة للجميع وتصبح العملية كلها زيفاً وخداعاً وتزويراً ولا شيء يكبح جماح هذه الروح والشر الذي يتولد عنها في حين كانت التنظيرات والمثاليات «على قفى من يشيل» كما يُقال في المثل الدال على كثرة الشيء، لكن كل ذلك كان في السابق قبل الامتحان الحقيقي الذي يكشف كل هذه الحقائق وفي كل دورة انتخابية يحدث كل هذا السقوط العظيم للمثاليات الزائفة وهو أمر مألوف. في ظاهرة أخرى لمثل هذا السقوط المريع للادعاءات شاهدت أو كنت أشاهد للمرة الأولى مباراة كرة قدم محلية جرت هذا الأسبوع وماهي إلا دقائق حتى اعتجنت الأمور وسقطت الروح الرياضية وتبخرت من الملعب فجأة وحلّت روح أخرى، لا أعلم ماذا يمكن تسميتها في العُرف الرياضي؟ ما يبعث على الأسى والحزن على فقدان الروح الرياضية التي تقبل الفوز والخسارة هو أن هذه الروح يجري الحديث عنها كثيراً وقد صارت مثلاً يُضرب حتى في أسواق بيع القات وفي البيوت التي يُضرب فيها الأزواج فيتقبلون ذلك بروح رياضية من غير ردود أفعال ولو كانت هادئة .. هذه الروح التي كانت سبب تحمل الكثير من الناس للظلم والقهر والمغالطات والخداع فيعلّلون لأنفسهم بالروح الرياضية التي تلاشت في مكانها الأصلي فجأة وحلت روح العناد والتعصب وأشياء لم تكشف عنها عدسات كاميرات البث، إذ جرى تغيير اتجاهها، ومن ثم قطع البث بسبب هدف جاء من ضربة جزاء أوحى بإمكانية عدم فوز أحد الفريقين وكأنه اشترط الفوز مسبقاً فتخلّى عن الروح الرياضية ومعه أنصاره بالطبع. بغض النظر عن حقيقة ماجرى فالعزاء هنا للروح الرياضية التي وجدت نفسها نكرة على حين ضربة جزاء وعلى هذا النحو تسير الرياضة في بلادنا. هناك أشياء كثيرة يجري التخلّي عنها ومعاداتها لأتفه الأسباب وعلى أُسس من الفهم الخاطئ وفي لحظات انفعال يتناسى فيها الفرد أو الجماعة أو الحزب أو الأحزاب كل الأدبيات والمثاليات والوصايا بما فيهن وصايا المنابر والمهرجانات وتحل محلها ثقافة أخرى لا وجود لما قيل وما يُقال ويذهب الصبر والحكمة والإحسان والكرم والصدق والمصلحة العامة ومصلحة الأمة وكل الهدوء والوقار أدراج الهوى والمصلحة الخاصة ولاشيء قبلها ولا شيء بعدها..