لكل ظاهرة في الوجود ما قبل وما بعد، وإذا أدركنا هذا الأمر نصل إلى يقين بأن كل ظاهرة زائلة، وأن كل زائل ليس إلا حدثاً عابراً ولا يمكن أن يكتسب صفة القدم والديمومة، كما أننا نصل إلى قناعة بأن كامل الظواهر المرئية ليست إلا صوراً متحركة .. تأتي من الغيب وإليه تؤول، والشاهد أن الصور المرئية للبشر ليست تعبيراً كاملاً عن ماهية الناس، فنحن فيما نرى الآخرين أمامنا إنما نرى بعضاً من بعضهم، وهذا ماقرره الحلاج في قوله : عجبتُ لبعضي كيف يحمله كلي ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضي والدليل على ما ذهب إليه الحلاج أنك إذا وضعت مرآة أمامك سترى صورتك في المرآة، وما كان للمرآة أن تعكس هذه الصورة المُجسّمة لجسدك لولا ذلك الأثير الذي يخرج منها مُنتظماً ومُحايثاً للأصل المرئي بعدسات أعيننا. هذا يجعلنا نرى بعين اليقين إن هيئاتنا الآدمية المُجسمة المتموضعة في الأبعاد الثلاثة ليست إلا صورة من أصل يتجاوز تلك الأبعاد إلى ضعفها ولهذا قال ابن الفارض : ملأت جهاتي الست منك فأنت لي محيطي وأنت مركز نقطتي صورنا تسبح في الأثير وتتمرأى أمامنا كصور بأبعاد ثلاثة حقيقية وبتجسُّد مادي مؤكد، فما الفرق إذاً بين تلك الصورة التي لا نراها بين الصورة التي نراها؟ الفرق أن ما نراه صورة فيزيائية تكون مُجسّمة، فيما تلك التي تنعكس على المرآة صورة أثيرية فوق التجسيم المادي الفيزيائي، غير أنها تنقل أخص خصائص البشر من لون ورائحة وحرارة نوعية، وهذا يمكن تبيّنه من حاسة الشم الاستثنائية لدى بعض الكائنات الحيوانية التي تستدل على أثير الصورة بالشم كما تفعل الكلاب .. أيضاً الحرارة النوعية التي تتبقّى من الإنسان إذا غادر مكاناً كان يجلس عليه، وهو أمر معتمد الآن في بعض علوم تشخيص الأمراض بما في ذلك رصد المصابين بانفلونزا الخنازير في المطارات.. إذا كانت الصورة المنطبعة أثيرياً على المرآة تمثل ما بعد الصورة التي نعرفها للبشر والكائنات بوصفها صورة فيزيائية مُجسمة، فإن ما قبل صورة المرآة صورة أخرى ، فكامل التشكُّلات التي يمر بها الإنسان منذ أن كان نطفة فعلقة ثم مضغة ثم كائناً مكسواً باللحم والعظم، فإنساناً كاملاً، وحتى مراحل تدرجه في النماء . هذه الصور بجملتها تقبع في مساحة «الما قبل» ، بل إن ما قبل الصورة تتجاوز هذه المرحلة إلى ما كان عليه الحيوان المنوي والبويضة قبل أن يتلاقحا في رحم الأُم ويصبحا جنيناً بإذن الله . ما قبل الصورة اتصال وشيجي يبحر بنا إلى آدم عليه السلام ، وما بعدها ليس وقفاً على الصورة الأثيرية التي تعكسها المرآة، بل تلك الصورة البرزخية الأبدية التي تسبح في سديم الكون، وحتى يوم البعث والنشور، مما يذكرنا بلطيفة الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر الذي فاض بقوله : لقد صار قلبي قابلاً كل صورة .