اعتاد الناس أن ينسبوا البخل إلى كل من يمسك عن العطاء، وغالباً ما يكون هذا العطاء مالاً، وكأن البخل لا يكون إلا صفة ملازمة لأولئك الذين يحبسون المال، ولا ينفقونه في سبيل الله لمن يستحقونه، أو كأن البخل لا يكون إلا صفة من صفات أولئك الذين يمضون أوقاتهم في وجل وضيق خوفاً أن يلم بهم ضيف أو عابر سبيل يقصدهم في حاجة أو قِرى.. عَبَّر عن أمثال هؤلاء البخلاء أبو نواس بهذه الأبيات: رأيت الفضل مكتئباً يناجي الخبز والسمكا فأسْبل دمعهُ لمَّا رآني قادماً وبكى فلمَّا أن خلصتُ لهُ بأني صائم ضحِكا وقال شاعر آخر: أبو نوح أتيتُ إليه يوماً فغداني.. برائحة الطعامِ وقدّم بيْننا لحماً سميناً أكلناه على طبق الكلامِ فلما أنِ رفعت يدي سقاني كؤوساً حشوها ريحُ المدامِ فكان كمنْ سقى الظّمآن ماء وكنت كمن تغدّى في المنامِ أما ابن الرومي فقد صوّر عيسى بن منصور بهذا الوصف الجميل: يُقتَّر عيسى على نفسه وليس بباقٍ ولا خالدِ فلو يستطيع لتقْتِيره تنفس من منخرٍ واحدِ ويقول آخر: أتانا بخيل بخُبز لهُ كمثل الدراهم في رقته إذا ما تنفس حول الخوان تطاير في البيت من خفته هؤلاء بخلاء المال والزاد والقِرى.. فماذا عن بخلاء العلم وتقديم المعرفة للآخرين في المدارس والمعاهد والجامعات وغيرها من دور العلم ، لقد سمعنا عن أساتذة في الجامعة أشد بخلاً من أبي الفضل، وسمعنا عن معلمين ومدرسين في كل مراحل الدراسة أبخل من أبي نوح وأكثر تقتيراً من أبي عيسى بن منصور فيما يقدمونه لتلاميذهم وطلابهم من ألوان المعرفة، هذا بالطبع إن كان أمثال هؤلاء المعلمين والمدرسين أو الأساتذة على قدر من الفهم، وكانوا على دراية بالمواد التي أوكل إليهم تدريسها ونحن هنا نفترض أو بالأصح نحن هنا نتحدث عن الذين نفترض أنهم على قدر كاف من الإلمام بالمعرفة بالمواد التي يقدمونها لتلاميذهم وطلابهم. ولانتحدث عن أولئك الأساتذة والمعلمين الذين يحتاجون هم أنفسهم إلى عشر سنوات لإعادة تأهيلهم أن يكونوا معلمين أو أساتذة في الجامعة أو غيرها. حديثنا إذاً مقصور على البعض القليل من المؤهلين أن يكونوا معلمين ومدرسين وأساتذة في الجامعة والمدارس. فالقليلون فقط من هؤلاء القليلين هم الذين يعطون بسخاء ويفتحون صدورهم وعقولهم لطلابهم وتلاميذهم يشرحون لهم بإتقان ويبذلون معهم جهوداً كبيرة، لأن أمثال هؤلاء الأساتذة قد علموا أن الطلبة أو التلاميذ ليسوا جميعاً على مستوى أن يفهموا الدرس من أول مرة، فالبعض يحتاج إلى الشرح أكثر من مرة ويحتاج إلى عرض الموضوع عليه في أكثر من صورة وأكثر من طريقة.. وليس متاح لغير الأستاذ أو المعلم الممتاز أن يتفهم الصعوبات بالغة الدقة والخطورة التي تواجه التلاميذ والطلبة في كل مراحل التعليم. نحن نعلم أن هناك أساتذة في الجامعة ومعلمين في مختلف المراحل يعتبر وجودهم كارثة على التعليم وكارثة على التلاميذ والطلبة وكارثة على اليمن، ليس لأنهم بخلاء جداً في تقديم الشرح المفيد لطلابهم وتلاميذهم، بل لأنهم أيضاً يجهلون ماذا يقدمون، فمستواهم العلمي ركيك وقدراتهم متواضعة، فإذا بأمثال هؤلاء من أجل أن يغطوا مركب النقص الذي يشعرون به، يركبون حصان الغرور، ينظرون من فوق صهوته إلى تلاميذهم وطلابهم، نظرة استعلاء، فإذا بك تجدهم لا يعرفون التواضع ولا يعرفون كيف يتعاملون مع تلاميذهم وطلابهم.. فيكون من الطبيعي ألاّ يجدوا التوقير والحب والمودة التي يستحقها أولئك الأفاضل من أساتذة الجامعة أو من المعلمين والمدرسين المبدعين في كل مراحل التعليم. هناك بخلاء جداً من الأساتذة والمعلمين والمدرسين، تجدهم في حالة كسل وارتخاء وخمول طوال العام الدارسي، ماعدا الثلاثة الأشهر الأخيرة من العام أو نحو ذلك، فإنهم ينشطون لإعطاء الدروس الخصوصية، خصوصاً المعلمين والمدرسين، في المدارس الخاصة، الذين نجدهم قد شمروا سواعدهم وشدوا مآزرهم استعداداً لإعطاء الدروس «الخصوصية» لأولئك الطلبة والتلاميذ، الذين جعلوهم ينامون معهم طوال العام.. ونحن نسأل هنا: هل يعلم مدرسو ومدرسات كل المراحل، ونخص بالذكر المرحلة الثانوية أن هناك طلبة مجدين ومجتهدين لكنهم لا يجدون من يهتم بهم من المدرسين والمدرسات في شرح ما غمض أو تعسر عليهم فهمه طوال العام ؛ لأن الكثيرين من المدرسين يكونون في حالة «بيات شتوي» أثناء العام استعداداً لإعطاء الدروس الخصوصية في آخر العام.. فيضطر الأهل أن يبيعوا ويستلفوا ألا يظن أمثال هؤلاء المدرسين والأساتذة أنهم أشد عباد الله بخلاً «وأن البخل جلباب المسكنة، وربما دخل السخي بسخائه الجنة» خصوصاً إذا كان معلماً..؟!