الفرق كبير جداً بين البخل والحرص, لأن الأول يسد قنوات الإنفاق الضروري ويكتفي بالكفاف, بينما يفتح الثاني أبواب الضرورة مع الإبقاء على فكرة التوفير قائمة بنسبة معينة لا تضر بتوفير الاحتياجات اليومية لأفراد العائلة. شخصياً لم أجرب البخل لا من قريب ولا من بعيد, لكني سمعتُ عنه كثيراً من نساء يشكين بخل أزواجهن لدرجة أن أحدهم يحمل مفتاح الثلاجة ومفتاح غرفة المؤونة معه أينما ذهب بعد أن يقوم كل صباح بإخراج قوت يوم واحد فقط لزوجته وأولاده!!. وبالمقابل فإن زوجاً يشكو من بخل زوجته الشديد لدرجة أنها تستخدم علبة الفاصوليا الواحد لعدة أيام بعد تخفيفها بالكثير من الماء ووضعها في الثلاجة, ويقول إنه يشعر أنه يأكل التراب بدلاً من الطعام, وإنه يتمنى أن يأتي اليوم الذي تكون فيه رائحة الطعان تُسيلُ اللعاب لأن تلك الزوجة تصر على أن رائحة الطعام المنبعثة من المنزل تجمع الجياع حوله!. ولعل البخيل في الإنفاق يكون بخيلاً في العاطفة أيضاً, وهذا ما تبين لي حين سألت عن ذلك فكيف لمن يبخل بما يُشترى أن يكون كريماً بما لا يباع ولا يشترى؟!!. ولهذا تجد الزوج البخيل يبخل حتى في نظرة حنان واحدة إلى وجه زوجته التي يكون الجوع إلى العاطفة أهلكها أكثر من جوعها إلى الطعام والشراب، والأمر ذاته ينطبق على الرجل الذي تبخل زوجته أن يشم منها رائحة طيبة حرصاً منها على صحتها وعلى الماء والصابون والشامبو إن وجد!!!. أعرف أرباب وربات بيوت صنعوا مستقبلهم بأيديهم عن طريق تنظيم شؤون المنزل وتوفير حصة شهرية للادخار وبناء غدٍ أفضل لأبنائهم, لأنهم استطاعوا بنجاح كبير أن يوازنوا بين أولويات الحياة وضرورياتها ومن ثم وصلوا إلى تحقيق أهدافهم, متغاضين عن جميع الصعوبات التي واجهت سير حياتهم. أذكر أنني استمعتُ مرة شكوى لامرأة لم تتجاوز العشرين تزوجت برجل يكبرها بثلاثين عاماً عانت معه سطوة الجهل والبخل معاً, فقد زوّجها إخوتها وهي طفلة في السادسة عشرة من العمر لهذا الرجل البخيل الذي كان يخبىء قارورة العسل ورؤوس الثوم أسفل فراشه حتى يحصل على حصته من المقويات دون أن تراه زوجته, ثم يكتفي وخلال نهار كامل أن يخرج لها من خزانته الكبيرة نصف نفر من الدقيق لتصنع خلال النهار قرصاً واحداً فقط!!. تخيلوا معي لو أننا فعلنا ذلك مع أبنائنا وبناتنا المراهقين في هذا السن, أقسم أن انتفاضة داخل البيت ستقوم ولن تقعد, بل ربما طهونا على النار واحتسوا مرق أجسادنا غير آبهين أن داخل تلك القدور آباء وأمهات!!. الجوع كافر, وأنا أكره جوع الأطفال والمراهقين تحديداً, لأنها في هذا السن تحديداً غريزة غير موجهة تريد أن تُشبع فقط, ولهذا أنصح الأمهات والآباء أن يتركوا في المطبخ باستمرار وجبات إضافية غير تلك الأساسية من إفطار وغداء وعشاء. وبالعودة إلى البخل فلم أجد ألذ من كلمات قرأتها منذ زمن تصور حال البخلاء في ديارهم ومع ضيوفهم، حيث يقول الشاعر واصفاً حال البخيل: رأى الصيف مكتوباً على بابه فأولها ضيفاً وقام إلى السيف! وقلنا له خيراً فظن بأننا نقول له خبزاً فمات من الخوف! وهكذا فإن البخيل يموت فزعاً حين يطرق بابه ضيف أو تمر على داره سحابة صيف، غير أن البخيل لو تخيّل ولو للحظة ما سيؤول إليه ماله بعد موته ما تردد في الإغداق على نفسه وإدهاق كأس صحته بأصناف الغذاء التي تصلح حال الفاسد من أعضاء الجسد, لكنه للأسف يعتقد أنه سيخلّد أو أنه سيحمل ما يبخل به على نفسه وزوجته وأبنائه إلى داخل قبره, وهذا مستحيل الحدوث بالطبع. والبخل عادة مقرون بطول الأمل ونسيان الآخرة وتجاهل لحظة الموت الآتية رغماً عن الإنسان. أما الحرص فهو أقرب إلى الحذر منه إلى البخل، والحريص يعتقد بوجوب الحيطة وإبقاء باب التوقعات مفتوحاً لحدوث الجديد لأنه يؤمن بأحداث القدر خيراً أو شراً. والحريص يؤمن بإكرام الضيف وفق خطة معينة, ولأكون أكثر وضوحاً فإننا في مجتمع يعيش بالبركة ولا يخطط لمستقبله بالورقة والقلم, وإذا زاره ضيوف ليوم واحد في الأسبوع فإنه يحطم ميزانية أسبوع كامل إلى الأمام خاصة أن أغلب ربات البيوت لا يعلمن الكثير عن بدائل بروتينية وفيتامينات ضرورية لتغطية النقص الحاصل في ظل مرتبات ضئيلة وغلاء فاحش يجعل المواد الغذائية شديدة الاستهلاك هي كل ما يصبو إليه المرء, بينما هناك مواد أكثر ضرورة للجسم لا يهتم بها الناس كثيراً. مازلت أذكر شعراً كنت أذكره على مسامع أبي حفظه الله حين تعرض للبخل أو شيئاً منه, يقول الشاعر: يجوع ضيف أبي نوحٍ بكرةً وعشيا أجاع بطني حتى وجدت طعم المنية وجاءني برغيف قد أدرك الجاهلية فقمت بالفأس كيما أدق منه شظية فثلم الفأس وانصاع مثل سهم الرمية فشج رأسي ثلاثاً ودق مني ثنية مساكين هم البخلاء يقدّمون لسواهم بعد الموت رزقاً سهلاً, ويعيشون هُم حياةً ملؤها الكفاف والتقتير والجوع والتعب. لكن بين هذا العناء وبين الحرص والتخطيط خيط رفيع لا ينبغي أن نتجاوزه, لأن البخل يدعو إلى رذيلة السرقة, وهي بدورها تقود إلى ما هو أفظع.