ذكرني صاحبي بقصة سيدنا داؤود عليه السلام وامرأتين كان لكل منهما طفل فجاء الذئب وأكل أحدهما وهما منشغلتان عنهما . ولما عادتا وجدتا أن أحد الطفلين قد افترسه الذئب ولم يبق إلا طفل واحد، فقامت كل واحدة تدعي أنه ابنها .. تنازعتا في الأمر وذهبتا لسيدنا داؤود عليه السلام ليحكم بينهما .. ولقد كانت قدرة كبراهما على الإقناع أكبر من الصغرى فحكم لها بالطفل وذهبت الصغرى تولول وتبكي، لأن الولد على التحقيق كان ابنها فلقيها سيدنا سليمان عليه السلام وسمع قصتها، فذهب إلى الأخرى واستمع إلى حجتها وقد أخبرته كل واحدة منهما الخبر فاتفق مع أبيه داؤود-عليه السلام- على أمر خفيٍّ يظهر من خلاله سر البنوة الحقيقية للطفل.. فدعا بسكين وقال: مادام الأمر مشتبهاً علينا وليس لدينا اليقين بصحة دعوى أي منكما فإني أرى أن من العدل أن تقتسما الطفل بالتساوي وسوف أقسمه بينكما وشحذ السكين إيذاناً ببدء القسمة .. وهنا صرخت الأم الحقيقية وهي الصغرى وقالت: لا والله لا تقسمه ... دعه لها فهو ابنها ..بينما قبلت الكبرى ورضيت بقسمة الطفل إلى شطرين .. وهنا قال سيدنا سليمان للصغرى بعد أن انتزع الطفل من الأخرى: خذي الطفل فهو ابنك.. واذهبي..
صاحبي ذو التاريخ الطويل في النضال الوطني والقومي قال لي مذكراً إياي بهذه القصة ومدلولاتها : قصتنا مع الوطن والوحدة في هذه البلاد هي قصة الامرأتين مع الطفل .. فالذين لا تنتسب لهم وحدة الوطن ولا ينتسبون إليها لا يمانعون من تمزيق أوصالها وأوصال الوطن، والذين يحسون بالغيرة عليها وعلى الوطن، يستميتون للحفاظ عليها بأي ثمن.. ولا شك أن العاقبة للمتقين والصادقين والمؤمنين .. أما من لا يرون غير القتل وتقطيع الأوصال طريقاً لتحقيق أمانيهم فسيضيق عليه حالهم، وسيعدمون الوصول إلى مآربهم الوضيعة إلا أن يشاء الله ربنا شيئاً .
عندما يفكر المرء بمصالحه كفرد يكون صغيراً بحجم نفسه، وعندما يُدخل أسرته مثلاً فإنه يفكر بمصالحها فيكون أكثر سعة، وعندما يتسع أكثر فيدخل حزبه تتضاءل مصلحة أسرته مع مصلحة حزبه، وعندما يدخل في تجمع أحزاب فالقاعدة أنه تتضاءل مصالح حزبه، وتصبح مصالح مجموع الأحزاب التي يتحالف معها هي المهيمنة .. أما من يجد نفسه مسئولاً عن أمة بكامل أفرادها وأسرها وأحزابها ،فلاشك أن سعة رؤياه وتصرفه وتفكيره تكون بحجم الوطن وبحجم الأمة كلها ..
ربما تفسر لنا هذه الحقيقة حالة الضيق التي نشهدها في تصرفات البعض ،حين يتعاملون مع قضايا الوطن .. فهل يتوقع ممن يرى نفسه مسئولاً عن مصالح الوطن كله أن يحرض على الفتنة ويشجع عليها،ويضرب ببعض أبنائه البعض الآخر ،ويفرح بتفاقم المشاكل بين الأطراف، وبتفجير الأوضاع هنا وهناك، ويحرض الأعداء على وطنه وينفر القادمين إليه والمتعاطفين معه والطالبين نفعه من الاقتراب، ويهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ..؟! هذه كلها مسالك ترتبط بالصغار الذين توحدت أنفسهم بمصالحهم فحسب إما أفراداً أو أحزاباً أو تجمعات، ولكنها فارقت الوطن ككل، وفارقت أهله ،وليس مع العين أين كمايقول المثل ..