لا يستقيم حال أي بلد ديمقراطي إلا بصلابة قواه السياسية المعارضة التي هي أحد مصادر قوة وإلهام حزبه الحاكم، ومن ضراوة منافستها تشتد رصانة برامجه وأدائه الحكومي.. وتلك إشكالية قوضت في اليمن فرصه التنموية بعد أن جرّت المعارضة الحزب الحاكم إلى منازلات خارج حلبة الديمقراطية، وبدلاً من الاحتكام إلى الصناديق الانتخابية انتقلا إلى تحريك الشوارع واستنزاف زمن البناء الحضاري خارج الأطر المؤسسية. فالمعارضة تحاول استثمار المناخ الذي تولد عن الحالتين التونسية والمصرية, فصارت تراهن على تظاهرات (مليونية) وأنشطة احتجاجية, وانهمكت باستنساخ كل شيء حتى الشعارات وصفحة (الفيس بوك) والتصريحات التي يدلي بها المتظاهرون للفضائيات, غير أنها تجاهلت الأهم من كل ذلك وهو التفكير بمدى تشابه الواقع البيئي والاجتماعي والثقافي والسياسي مع اليمن، لأن كل شجرة تغرس في غير أرضها ومناخها لا تكتب لها الحياة. إن واحدة من المشاكل التي تواجهها المعارضة هي أنها لا تفصل بين الحسابات الواقعية سواء لنفسها أم للحاكم, وبين برامجها التعبوية والترويجية التي تلبس أحزابها ثوب مارد سياسي من باب استقطاب الساحة الشعبية, فتحول ذلك الخلط إلى عبء عليها لأنه ظل يومي لها لعب أدوار تفوق طاقة احتمالها فتخرج منها منكسرة, وهو ما يؤثر سلباً على حجم ثقة الشارع بقدراتها ورهاناتها. ففي الوقت الذي ظلت تهدد بتحريك الشارع وسعت إلى ترهيب الحزب الحاكم بدعوة لمظاهرات مليونية تنظمها اليوم الخميس, فوجئت بأن الحزب الحاكم كان أدهى منها وحساباته أكثر دقة بإعلانه عن مظاهرة (حاشدة) سينفذها في نفس زمان ومكان مظاهرات المعارضة، ولعل موضع الدهاء في ذلك يكمن في عدة جوانب أولها أن المؤتمر سيثبت للجميع عملياً أن الشارع ليس ملكاً لأحد وإنما هو شارع ديمقراطي لكل قوة فيه نصيبها.. وثانياً أنه سيحقق توازناً جيداً في الترويج الإعلامي داخلياً وخارجياً وبما يقلل كثيراً من قيمة شعار (التغيير) الذي ترفعه المعارضة طالما أن الحزب الحاكم مازال قوة حيّة وفعالة في الساحة.. وثالثاً أنه سيعكس للرأي العام مدى قوة تفاعلات تجربته الديمقراطية في اليمن. أما الغاية – وهي الأهم – هو أن الحاكم قطع الطريق على المعارضة في التفرد بالساحة الشعبية، وصناعة انطباع بأنها أصبحت سيدة الموقف، وهو ما كان قد يترتب عنه اهتزاز معنويات أنصاره جراء الربط الذهني بين المشاهد المخزونة من الساحة المصرية, وبين ما هو قائم رغم الاختلاف الهائل بينهما، إلا أن وجوده في الساحة سيقلب كل المعادلات ويعزز الثقة بقوته، فضلاً عن كون ذلك سيسهم كثيراً في منع الفوضى والتخريب من خلال شغل الفراغ الذي تخلفه الأجهزة الأمنية جراء تفاديها الاحتكاك بالمتظاهرين. ونظراً لحالة الخلط التي ذكرناها تعرض المشترك لنكسة في شبوة “عزان” جراء مهاجمة عناصر الحراك مهرجانه والاشتباك مع عناصره يوم الاثنين الماضي, وفي اليوم التالي تعرض لنكسة مماثلة بالضبط في المكلا. ومن المفارقات الغريبة أن المشترك استنكر عدم تدخل السلطات لحمايته, رغم أنه كان يدين أي احتكاك أمني مع الحراك ويسميه (نضالاً سلمياً) ونظم عشرات المظاهرات التي تستنكر منع ممارسات الحراك العدوانية أو اعتقال بعض عناصره. إن غياب بُعد النظر والواقعية عن حسابات المعارضة قد يؤثر كثيراً على مستقبلها في الساحة الوطنية، ويؤثر أيضاً على قوة ورصانة أداء الحزب الحاكم الذي قد يستغل تلك الثغرات في التقاعس عن بعض التزاماته الوطنية, وبالتالي فإن الساحة الشعبية بالكامل تتأثر سلبياً بواقع المعارضة التي تنعمك منذ ستة أعوام بمعارك الحوار والانتخابات, وفي آخر الأمر لا هي التي ستقود المواطن إلى صناديق الاقتراع, ولا هي التي انتزعت له أي مكسب على صعيد حياته المعيشية, وإنما عادت بعد سنوات الانتظار لتدعو الناس إلى حمل الصميل وانتزاع كرسي الرئاسة بقوة التخريب!!.