كثير من أمور الحياة يجب أن نُبقي بينها وبين قلوبنا مسافة كافية لمنع حدوث التصادم معها ولتجنب حدوث الاشتعال الخطر بين مواد قابلة لذلك تخفيها عقولنا عنوة وربما عن غير قناعة. أبناؤنا هم روعة الحياة ورونقها الندي ورأس مالنا منها وتجارتنا التي نحفها بالعفاف والطهر والصدق حتى لا تخسر فنبقى مفلسين من أجمل هبات السماء لسكان الأرض، تدفعنا الظروف أحياناً لترك هؤلاء الأبناء يخوضون الحياة بمفردهم وعيون قلوبنا تحرس ذكراهم لكن من بعيد، نتركهم رغماً عنا كمن يترك قلبه على الطريق ليرحل ميتاً على أكتاف البشر، نعم نتركهم ونرحل موتى تحملنا أكتاف القدر إلى حيث لا ندري ويطير بنا بساط الأيام إلى حيث لا نعلم، نتركهم ونحن نقلّب شريط ذكرياتنا حين كانوا صغاراً وكنا صغاراً أيضاً! لا أدري من يستطيع أن يشعل شمعة الأمل أمام هؤلاء حين لا يجدون “ماما” التي ظلت تعلمهم أن بعد الظلام يبزغ الفجر وتشرق الشمس وتبدأ حياة النهار وأنه بغروب الشمس وحلول الظلام تبدأ حياة الليل وأن هناك دائماً بداية وما من نهاية ، حتى الموت لا يعني إلا بداية حياة جديدة. لا أدري من سيعلّم هؤلاء “الكتاكيت” أن الأفراح لا تنتهي أبداً وأن الأحزان أيضاً ليس لها نهاية أبداً وأن الأفراح والأحزان يسيران توازياً إلى أن يكتب لهما الإنطفاء والذبول. رغماً عنا نقدم التنازلات ورغماً عنا نتقبل النتائج، لكن هؤلاء الصغار لا يستطيعون أن يفهموا هذا الدرس ليس لأنه يفوق مستوى فهمهم بل لأنه يفوق مستوى فهمنا نحن! نحن الكبار الذين دعتنا قوتنا وقدرتنا على البطش لظلم الآخرين وسلب حقوقهم وتحطيم أفئدتهم بصخرة اليأس والحزن والإحباط. ولهذا كان لابد من وجود مسافة معقولة بين قلوبنا وبين أحداث حياتنا حتى لا يكون الارتطام مدوياً وحتى نمنح عقولنا فرصة التفكير واتخاذ القرار مهما كان صعباً، وأن تجبرنا الحياة على اتخاذ قرار صعب فهذا أفضل بكثير من أن تجبرنا على التخلي عن اتخاذ القرار والوقوف وجهاً لوجه أمام عاصفة غير مرئية من الأفعال المشوشة والبعيدة عن العقل والحكمة.ربما كان ما يدعونا للتنازل هو الحب،وربما كان هو الخوف، وربما كان هو الضعف ولكن أياً كانت الأسباب إلا أننا في النهاية لا يجب أن نتنازل عن خيوطنا الرفيعة التي يمكن أن تكون هي البداية الجديدة لحياة لا تعكرها المهادنات كما لا يجب أن نضع أسلحتنا أبداً حتى نأمن شر المباغتة المتهورة التي تلقي في طريقنا أشواك الانتقام وتجبرنا على استخدام البأس كلغة للتفاهم مع من يعجز حتى عن فهم نفسه ويحتار في فهم لغة الآخرين مهما كانت بساطة مفرداتها. اتساءل: بخوف الأم عن أولئك الأبناء الذين فطمتهم قسوة آبائهم من حنان أمهاتهم وحرمتهم غطرسة هؤلاء الكبار من أن ينعموا بأحضان دافئة بين يدي(ماما)متعطشة لأن تغمرهم بعنايتها ورعايتها..اتساءل: ماذا تحمل قلوبهم من مشاعر تجاه والدين لكلٍ منهما اتجاه معاكس للآخر لا يساويه قدراً لكنه ربما ساواهُ وزراً وهذا أمرٌ واقعٌ لا محالة، ومما يثير الدهشة ويدعو للغرابة أن يتجاهل هؤلاء القيمة الدينية والاجتماعية والنفسية بحرمة الإضرار والتضييق على النساء بشكل عام والأمهات بشكل خاص وكأنهم لا ينتمون لهذا الدين ولا يعقلون شريعته ولا يفقهون تعاليمه، من أسوأ الدروس المرّة التي يفرضها الواقع على الإنسان أن يضطر لترك من يحب ليفارق ما يكره، وأن يتنازل عن أثمن ما يملك ليستأثر مكرهاً بأرخص ما يمكن أن يمتلك المرء، وليس هذا فحسب.. بل إنه يمكن أن يدفع عمره في انتظار أن تأتيه الأقدار بالفرج وربما كان هذا هو الأمل الوحيد الذي يضحي هؤلاء من أجله، لكن منطقة قابلة للاشتعال فهي ملغمة بمشاعر الألم والخوف والحرمان بالرغم من أنها تبدو ولمن يجيد قراءة تفاصيلها من أنقى وأصفى مناطق الإحساس لدى الإنسان لكنها فعلاً تبقى أكثر حساسية من أي منطقة عطاء وتضحية يمكن أن يمتلكها الإنسان.