بالرغم من إيماني بحقيقة ما جاء في البيت الشعري: «بالعلم والمال يبني الناس مجدهم لم يبن مجد على جهل وإقلال» إلا أنني أعتقد يقيناً بن العلم يأتي بالمال، وبالتالي فإن اهتمام الدول والشعوب بالعلم والبحث العلمي يقودها إلى تحقيق التقدم والنهوض في مختلف المجالات. وهناك العديد من الأمثلة والنماذج الواقعية في تأريخنا الحديث والمعاصر لدول وشعوب كانت فقيرة ومتخلفة ونهضت وتقدمت بالعلم والابتكار ودعم وتشجيع البحث العلمي كالهند والصين ودول النمور الأسيوية وبعض الدول الأوروبية. ويكفي أن نطّلع على بعض التقارير والإحصائيات العالية المتصلة بمستوى التقدم والناتج القومي والمنافسة والإنفاق على العلم والبحث العلمي في دول العالم؛ لنجد أن هناك علاقة طردية بين مستوى التقدم وتنافسية الدولة على المستوى العالمي, ومقدار إنفاقها على العلم والبحث العلمي كنسبة من إجمالي دخلها القومي السنوي. فالدول المتقدمة تنفق بشكل كبير على العلم والبحث العلمي بعكس الدول المتخلفة أو النامية كمعظم الدول العربية التي نجد إنفاقها في مجال البحث العلمي بالذات يشكل نسبة ضئيلة جداً ومتدنية في ميزانيتها ونفقاتها المتنوعة.. وللأسف الشديد عندما نسأل بعض المسؤولين أو المحللين الاقتصاديين في معظم الدول العربية عن سبب تدني إنفاق دولهم على البحث العلمي يجيبون بأن السبب الرئيس لذلك هو الفقر وشحة الموارد وأولوية الإنفاق على الجوانب الأخرى، دون إدراك من هؤلاء أن السبب الرئيس لتخلف هذه الدول وشحة مواردها والكثير من مشاكلها يرجع إلى ضعف اهتمامها وإنفاقها على العلم والبحث العلمي المرتبط بعملية التنمية، وهو الأمر الذي يجعلها تقبع في دائرة التخلف والعيش في دوامة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية المختلفة. والاهتمام بالعلم والبحث العلمي لا يرتبط فقط بالكم أو بحجم الإنفاق على التعليم والبحث العلمي أو عدد المدارس والجامعات والطلاب في الدولة, بل يرتبط أيضاً وبشكل أساس بالكيف؛ أي بكيفية توجيه هذا الإنفاق إلى المجالات العلمية والبحثية الحديثة والمتقدمة والمرتبطة بإحداث التنمية الشاملة في المجتمع والتطور والتقدم في المجالات الصناعية والتجارية التي تحقق عائدات وموارد مفيدة للدولة.. ولذلك فإن السبب الرئيس في تخلفنا كدول عربية في المجال الاقتصادي والصناعي بالذات يرجع إلى ضعف الاهتمام بالإنفاق على البحث العلمي الذي يخدم عملية التنمية رغم اهتمام العديد من الدول العربية بالإنفاق على التعليم بمستوياته المختلفة وبناء وتشييد العديد من المدارس والجامعات. فالعلم والبحث العلمي الذي يجب أن يكون محور اهتمام وتركيز الحكومات والمجتمعات العربية اليوم هو الذي يستند إلى معطيات التقدم التكنولوجي والمعرفي في المجالات العلمية التطبيقية والمجالات العلمية التطبيقية والمجالات الصناعية والاقتصادية التي تقود إلى تحقيق التنمية والتقدم والنهوض الاقتصادي. وهذا يقتضي الاهتمام بدعم ورعاية وتشجيع الإبداع والابتكار والاستثمار في تنمية العقول المبدعة والمبتكرة والموهوبة من الشباب في مختلف مراحل التعليم؛ لأنه إذا لم تهتم الدول والحكومات باستثمار هذه العقول في صناعة الوطن فقد تستثمر وتستخدم من أطراف معادية في تخريب وتدمير هذا الوطن.. وقد تعرضت في مقالة سابقة إلى الأفكار والمشاريع التي يطرحها العالم المصري والعربي الكبير الأستاذ الدكتور أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999م, لتحقيق النهوض والتقدم الاقتصادي لمصر حتى تصبح في مصاف الدول المتقدمة خلال السنوات القادمة, وتتمحور هذه الأفكار والمشاريع حول ضرورة تركيز الحكومة المصرية اهتمامها خلال الفترة القادمة على تنمية وتفعيل البحث العلمي، والاستفادة من معطيات التقدم التكنولوجي في تحقيق النهوض بالقطاع الصناعي والتجاري في مصر, وعدم الاهتمام أو التركيز فقط على الجوانب المعيشية والمشكلات اليومية للمواطن المصري وكذلك الجوانب السياسية والاجتماعية الأخرى. حيث يرى الدكتور زويل أن تركيز الدول والحكومات العربية على الهم المعيشي لمواطنيها والأمور السياسية والقضايا الاجتماعية على حساب الاهتمام بالبحث العلمي والاختراع والتصنيع والتكنولوجيا يعد السبب الرئيس في استمرار هذه الدول في دوامة التخلف والعجز عن اللحاق بركاب الحضارة والتقدم والنمو في عالم اليوم، وقد بدأ الدكتور زويل فعلاً بالإعداد لتنفيذ مشروع مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا في مصر. وقد أعجبني ما أشار إليه الدكتور زويل في إحدى مقابلاته من أن الطريق نحو النهوض والتقدم ليس طويلاً كما يتصور البعض, لأنك لا تحتاج إلى عشرات السنين حتى تحدث نقلة من التخلف إلى التقدم, كما أن الفرصة لم تفت كما يحلو لليائسين أن يصوروا الأمر, لقد فعلت اليابان والصين ذلك في سنوات, وفعلتها النمور الأسيوية وآيرلندا في سنوات.. وعندما تم توجيه سؤال للسيد مهاتير محمد – قائد النهضة الماليزية السابق - عن السر قال: أن تجعل الشعب كله يفكر في المستقبل. وحيث وجّه السؤال نفسه للسيدة روبنسون، رئيسة آيرلندا السابقة قالت إنه شيء واحد.. العلم. (*)أستاذ التسويق المساعد جامعة تعز [email protected]