إذا انغمس هذا الشعب في تقديس وتعظيم فرد واحد منه كونه زعيماً أو عالماً حصَر فهم حقيقة الأمور به أو ببضعة أفراد ممن كان لهم نصيب من التميُز من أبنائه وتوقف بدراسته للتاريخ عند إنجازات أولئك “الجهابذة” فإن هذا الشعب يعلن أنه يجهل النقص البشري الملازم حتى للعظماء من الزعماء أو العلماء، كما يجهل أن لكل جيل نصيبه من الإبداع، وأن المعرفة الإنسانية عملية تتراكم وتنمو باستمرار ولا تتوقف عند شخص أو فئة بعينها..! يعتبر كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو أكثر من ساعدوا في صناعة المجد الإغريقي الذي ازدهرت بفعله الحضارة الغربية إلا أن مفكري العصور الحديثة والذين أتوا بعد هؤلاء المفكرين أدركوا وتنبهوا جيداً وأعلنوا حقيقة أن التعظيم المفرط لأولئك الأسلاف هو الذي أوقف التقدم الأوروبي، وهذا لا يعد إنكاراً لتاريخ ما قدمه السابقون، ولكنهم أرادوا الوقوف عند لحظة فاصلة بين حقبتين من الزمن، فأعلن فرانسيس بيكو صارخاً في وجه الجميع: “يجدر بنا أن ننصرف عن أفلاطون وأرسطو ونكتسح من أفكارنا الأصنام والأوهام المزمنة” ونادى بكل قوة:ليس ثمة إلا سبيلاً واحداً أمامنا، وهو أن نحاول الأمر كله من جديد وفق خطة أفضل، وأن نشرع في أن نقيم من جديد إقامة تامة صرح العلوم والفنون العملية وكل المعرفة الإنسانية على أساس سليم. ليس هناك ما يثير الاشمئزاز أكثر من ثقافة التقديس والتبجيل لشخص أو طائفة أم مذهب سواء كان ذلك بطريقة مقصودة أم غير مقصودة، فخلق كائنات مقدسة جديدة هو ما ننبذه في يمن الثورة وما بعدها؛ كوننا نرى أن ثورة الشعب اليمني قد أنهت عصراً ظلامياً اختزل فيه الوطن في عباءة أشخاص، وهي ديكتاتورية نعتقد أنها قد انتهت ويجب أن تعود الأمور إلى مكانها الطبيعي في صناعة وطن خارج عن المألوف، وطن يبدو جديداً على المواطن اليمني خصوصاً فئة الشباب الذين ألفوا ثقافة القداسة ولم يستطيعوا التعايش معها فخرجوا في ثورة هدفوا من خلالها إلى إنهاء كل السلبيات التي يفترض أن تكون قد أزاحتها ثورة 26 سبتمبر في القرن الماضي، وطالما قد خَولنا ثورة 11 فبراير بذلك فيجب على الجميع العمل لإنهاء هذه الثقافة، فالمسؤول هو موظف حكومي مثل أي موظف آخر، ولا تمنحه امتيازات الوظيفة الأولى في البلد صلاحيات تأليه ذاته واختصار الوطن في شخصه. الشعب اليمني نقي بسليقته، وعاطفي وتصل عاطفته حد السذاجة أحياناً، وقد لعبت أطراف عديدة على هذا الوتر بأدوات الدين والمذهب وأحياناً المنطقة، مكرسة بذلك للمناطقية والمذهبية واللعب على أوتار الأمية والجهل والتخلف وغيره. يجب ألا يكون للزعيم الضرورة والمنقذ مكاناً في عصر اليمن الجديد، وفي حياة اليمنيين أمثلة عديدة جيَّروا الشخص الطيب والنقي إلى شخص طاغية ديكتاتور ومستبد، فلا نحن خدمنا الوطن به ولا استطعنا أيضاً الحفاظ على ما كان عليه قبل إلباسه عباءة التبجيل وجعله شخصاً مقدساً لا يُمس. وهناك خلاف موجود وفي هذه اللحظة بالذات، أحد أسبابه هو«ثقافة الصورة لشخصية الزعيم»، وهذا النوع من الخلاف الذي يصل إلى حد التمترس والصراع يجب أن يُدان، وهو صراع مرفوض وممقوت؛ كونه لا يعدو أن يكون صراعاً على ثقافة الماضي ورفض المتصارع الولوج إلى بوابة التاريخ الجديد الذي يجب أن يتشارك في بنائه الجميع، ولا تكون القداسة به إلا للوطن. فإذا كانت الدولة المدنية التي ننشدها لا تعطي الرفعة ولا السمو لديانة أو مذهب أو معتقد ما، ويجب ألا تعطي القداسة ولا الرفعة لشخص سواء كان رئيساً أو وزيراً أو مديراً أو حتى مواطناً عادياً، وإذا أيقن الجميع حقيقة أن الماضي يجب ألا يتكرر حينها ستذوب كل الخلافات، وستنصهر كل الصراعات في بوتقة الذهاب إلى المستقبل، وسيذهب اليمنيون إلى اليمن الذي يريدونه؛ كونه لن يخرج عن يمن يعز أبناءه ويجعلهم محاطين بالقدر الكافي من الاحترام والتقدير لدى الشعوب الأخرى. وإذا كان من الواجب علينا أن يكون لنا رمز “تشريفي” كما يرى البعض، وأن يكون هذا الرمز على بوابة القصر أو على جدار مكتب حكومي أو مباني المحافظات، فيجب أن يكون هذا الرمز هو “خريطة الجمهورية اليمنية”؛ كونها الرمزية التي تحتوي الجميع، فهي شاملة لكل تاريخ وجغرافيا الوطن. ومن هنا أوجه دعوة - وأحسبها وطنية – إلى كل القانونيين والمحامين وأعضاء مجلسي النواب والشورى لتقديم قانون رسمي بذلك يكون مدروساً بطريقة منهجية وعلمية ينصف الوطن ويعيد التاريخ اليمني إلى مساره الصحيح، يمنع هذا القانون رفع الصور الشخصية في المؤسسات الوطنية أو الاحتفالات والأوبريتات الرسمية لتكون الجمهورية اليمنية وعلمها الوطني وكذا خريطتها الوطنية في الصف الأول من الاهتمام، ولا يجب أن يكون هناك قداسة أو تعظيم أو تبجيل لشخص أو حزب أو مذهب أو طائفة، وتقديم هذا القانون إلى اللجان المختصة في مجلس النواب لدراسته وكذا إقراره والعمل به بداية من الفترة الانتقالية الثانية حسب المبادرة الخليجية المتوافق عليها لدى أطراف الحكم في البلد.