مؤتمر الحوار الوطني مطلب وطني ملح لمعالجة كافة القضايا الوطنية وتسديد الاختلالات وردم الفجوات القائمة في جسد الوطن وفي المشهد السياسي الذي يعيشه وينعكس سلباً على المواطنين بقسوة واضحة وبأوجاع جلية, وإصابات بليغة في العمق والظاهر بوضوح في غياب الرؤية الوطنية للتعامل مع القضايا المقلقة, وفي نسج علاقات طبيعية بين مكونات الفعل السياسي, وفي تحويل الصراع المدمر إلى تنافس حميد يقوم على البرامج, ومن يقدم أفضل للوطن أرضاً وإنساناً. ويظهر أيضاً, في شيوع اللاأمن واللااستقرار على بقع عديدة من جغرافية الوطن وفي مراكز الحركة والنشاط الاقتصادي والسياسي, وتحديداً في: الأمانة, وتعز وعدن, وحضرموت, ناهيكم على الانفلات الكامل للأمن وهيبة الدولة ووجودها في صعدة, والجوف وحجة وأبين. ويظهر أيضاً في شيوع المواجهات المسلحة والاختطافات والاغتيالات والاعتداءات المتكررة على منشآت حيوية للبلاد؛ كالذي يحدث لأبراج الكهرباء, وأنابيب النفط وغيرها التي تضر بالتفاصيل الدقيقة لمعيشة الناس وسكينتهم وعلى رؤيتهم للمستقبل؛ إذ بدأ الكثيرون يفقدون الأمل بالمستقبل, وبدأ ذوو القدرة والإمكانيات في التفكير بالبحث عن وطن بديل أكثر أمناً واستقراراً، يستطيع أن يمارس فيه حياته الطبيعية دون أثمان كبيرة نفسياً واقتصادياً واجتماعياً. إن انتشار المسلحين في الأسواق والشوارع والأزقة والدروب المختلفة يدل دلالة قطعية على غياب دولة الردع, دولة القانون, دولة المواطنة, دولة الحقوق والواجبات؛ إذ لا يمكن مطلقاً القول بوجود سلطة، ناهيكم عن دولة قائمة بكل أركانها, ومثل هذه الظواهر ماثلة للعيان وعاملة على إقلاق السكينة العامة والسلم الاجتماعي وانتهاك كل الخطوط الحمراء والصفراء والزرقاء التي كان ينبغي عدم تجاوزها باعتبارها متصلة بمواطن يحتاج أن يكون آمناً على ماله وعرضه وعلى حاضره ومستقبله.. إن الحوار الوطني, ينبغي أن يقف على كل الظواهر ويتعامل معها بجدية مطلقة ليس من باب التصالح بين الأطراف وتوفير فرص التقاسم والغنيمة وفق الأوزان والتأثير الحزبي والسياسي, بل من باب المصالحة مع الوطن والعمل الجاد على الخروج برؤية دقيقة وتوافقية للدولة المدنية الحديثة, الدولة التي في ظلها سيكون الجميع على قدر واحد من الاطمئنان على مصالحهم المشروعة التي ستصل إليهم بحكم القانون وسيادة الحق والعدل والمواطنة المتساوية والشراكة الوطنية، من خلال إتاحة الفرص للكفاءات التي تتبوأ مواقعها في مؤسسات الدولة، كل بحسب مؤهله وقدرته وخبراته, وبالقدر الذي يمكنه من الإسهام في خدمة المجتمع وحركة التنمية, وبما يعكس على الوطن والمواطن بالرفاه والنماء والازدهار. إن الحوار الوطني مطلوب للوقوف على القضايا الكلية الكبيرة منها والصغيرة التي تضر بالوطن في مقتل, فالقضايا الصغيرة بإهمالها وتجاهلها تتحول إلى قضايا محدودة، ويمكن معالجتها بقرار وإرادة وإدارة فاعلة.. ولذلك فالوقوف على قضيتي الجنوب وصعدة من الأولويات, والوقوف أيضاً على الجروح النازفة في تعز بدرجة أساسية من الأولويات؛ خشية اتساعها وتحولها إلى قضية يصعب السيطرة عليها ومعالجة تكويناتها المختلفة. من هنا نقول: إن الواجب الوطني والمسؤولية التاريخية تتطلب من القائمين على أمر تنظيم الحوار أن يوسّعوا دائرة المشاركين ويوسّعوا مائدة الحوار, وطاولة اللقاءات لتتسع لكل الأطراف الفاعلة سواء كانت كبيرة أو صغيرة أو متوسطة، سواء كانت شخصيات عامة أو متخصصة أو صاحب فكر ورؤية ثاقبة للأمور، ولديها ما يمكن تقديمه ليعين على الخروج برؤية تتحول إلى ميثاق شرف وخارطة طريق يعبر الجميع بها ومن خلالها إلى المستقبل المنشود. وفي هذا السياق فإن الساحات لها أولوية بكل مكوناتها وقواها الثورية التي أسهمت بإحداث التغيير الجزئي الذي حدث وهي لاتزال ممسكة إلى حدٍ كبير بعقال المرحلة والتأثير على مسارها لإحداث التغيير الكلي الذي خرج من أجله الناس إلى الساحات, بما تمتلكه من إرادة وطاقة في الصمود الأسطوري والقدرة على المواجهة السلمية بفعل ثوري ممنهج ومؤثر بكل المعاني والأبعاد. ولعل من أبرز القضايا التي ينبغي أخذها في الاعتبار أن يكون الحوار خطوة تالية لهيكلة القوات المسلحة والأمن، ما لم فإن أي حوار سينعقد سيكون حوار طرشان، تقف خلفه وترقبه وتؤثر عليه القوة العسكرية والقدرات المالية والتخندق البليد لمصالح آنية وضيقة. ولنا عبرة في الحوارات السابقة والتي أفضت - في ظل انقسام المؤسسة العسكرية والأمنية - إلى حروب مدمرة، أبرزها حرب صيف 1994م, التي لاتزال آثارها قائمة إلى يومنا هذا, فهل يعتبر الجميع بالقيمة الحقيقية للحوار على قاعدة الضرورة الوطنية وبشراكة فاعلة من كل الأطراف وليس على مشاركة تستهدف التقاسم وتستبقي الجروح قائمة وتكتفي بمعالجة سطحية ماتنفك أن تنفتح مرة أخرى على جروح أعمق؟. والله من وراء القصد