كثيرة هي الأسئلة والإشكالات التي تثار حول القرآن الكريم، بقصد التشكيك في صحته وأصالته. وكثيرة أيضاً هي الردود والإجابات التي تنشأ نتيجة لذلك. لكن الشيء اللافت حقاً أنه برغم كثافة الهجمة على هذا الكتاب، وبرغم شراسة المهاجمين، وبراعتهم في استخدام أسلحة التشكيك العلمية والمنهجية، إلا أنه لم يتوفر لهم حتى الآن برهان واحد يحسم معركتهم معه، كما حسمت مع الكتابين المقدسين، التوراة والإنجيل. والذي يطلع على تاريخ نقد الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، يفهم معنى البرهان الحاسم الذي نعنيه. بل يكفي أن يطلع على جهدين نموذجيين من تلك الجهود، الأول في نقد العهد القديم (التوراة وأسفارها الملحقة) ويمثله كتاب “اللاهوت والسياسة” للفيلسوف اليهودي باروخ اسبنيوزا، والآخر في نقد العهد الجديد (الأناجيل المعتمدة وملحقاتها)، ويمثله كتاب “إظهار الحق” للمسلم الهندي رحمة الله الهندي (من سلالة عثمان بن عفان). فقد قدم كل منهما من البراهين الدالة على أخطاء وتحريفات الكتابين المقدسين ما أرغم الجميع على التسليم بها دون نزاع معتبر. في حين أن المحاولات الشبيهة في نقد القرآن الكريم لم تحقق نفس المستوى من النجاح، وإن كانت قد أفلحت في تحقيق نسبة من الشك عند عددٍ محدود من المثقفين، ذوي الجاهزية العالية للشك والتفلت من قيود الدين. وأكثر هؤلاء الشُكّاك على مذهب “الشك للشك”، لا على مذهب “الشك لليقين”، الذي يتبناه كبار الفلاسفة والباحثين. وكان الدكتور عبد الرحمن بدوي قد سجل لنا في كتابه “دفاع عن القرآن” سلسلة من المحاولات التاريخية التي بذلها علماء المسيحية والغرب للتشكيك في صحة القرآن الكريم وأصالته. وإن كان الدكتور بدوي لم يوفق دائماً _ كما نعتقد _ في رد كل الإشكالات ودحض كل الشبهات المثارة. كما أن دراسته القيمة لم تحط بكل الجهود التي بذلت من قبل خصوم القرآن في هذا السياق. ولا يوجد _ حسب علمي _ إلى الآن مرجع علمي واحد، يتصدى لمهمة جمع وحصر الأسئلة والشبهات المثارة حول القرآن الكريم، والرد عليها رداً علمياً مفصلاً ومقنعاً. ومن بين المحاولات العريقة للتشكيك في القرآن الكريم، محاولة استثمار التشابه بين بعض موضوعات القرآن وموضوعات الكتاب المقدس، للقول بأن الأول قد نقل عن الأخير. وأن محمداً قد ألف كتابه (القرآن) بناء على مطالعاته القاصرة في أسفار التوراة والأناجيل، التي كانت متوفرة بين يديه آنذاك. وأنه من ثم قد وقع في أخطاء تاريخية كثيرة نتيجة لجهل الوسيط الذي أخذ عنه هذه المعارف، أو نتيجة لضعف ذاكرته بها..!. ومن أشهر وأقدم تلك الأخطاء التاريخية التي ألمحوا إليها، ورود اسم “هامان” وزيراً لفرعون موسى. مع أن هامان _ كما يذكر العهد القديم _ كان وزيراً للملك الفارسي “أحشوريش”، الذي جاء بعد فرعون بحوالي 800 سنة. وما كان للتوراة _ وهي تؤرخ لأهم لحظات بني إسرائيل في مصر _ أن تنسى وزيراً بحجم هامان. ولا بد أن محمداً قد اختلط عليه الأمر، فجعل هذا الوزير لذاك الفرعون. والطريف أن هذه الشبهة قد اختفت من سوق التشكيك بالقرآن في القرن الأخير، وسبب هذا الاختفاء هو أن البحوث الأركيولوجية الحديثة، من قبل علماء المصريات، قد كشفت صحة الخبر القرآني، وأثبتت وجود شخص يدعى “هامن” كان مديراً لمشاريع الفرعون رمسيس الثاني الأثرية (فرعون موسى) ورفيق دربه منذ الصبا. وكان والد هامان هو كبير كهنة “آمون” إله مصر في عهد هذا الفرعون. ولعل اسم هامان مشتق من اسم هذا الإله نفسه. وكان الطبيب والعالم الفرنسي موريس بوكاي قد ذكر قصته مع هامان في أحد كتبه، جاء فيها: “يذكر القرآن الكريم شخصاً باسم هامان هو من حاشية فرعون، وقد طلب إليه هذا الأخير أن يبني صرحاً عالياً يسمح له _ كما يقول ساخراً من موسى _ أن يبلغ رب عقيدته. وأردت أن أعرف إن كان هذا الاسم يتصل باسم هيروغليفي من المحتمل أنه محفوظ في وثيقة من وثائق العصر الفرعوني، ولم أكن لأرضى بإجابة عن ذلك إلا إذا كان مصدرها رجلاً حجة فيما يخص اللغة الهيروغليفية، وهو يعرف اللغة العربية الفصحى بشكل جيد، فطرحت السؤال على عالم مصريات فرنسي يتوافر فيه الشرطان المذكوران تماماً. لقد كتبت أمامه اسم العلم العربي (أي هامان) ولكنني أحجمت عن إخبار مخاطبي بحقيقة النص المعني، واكتفيت بإخباره أن هذا النص يعود تاريخه بشكل لا يقبل النقض إلى القرن السابع الميلادي. وكان جوابه الأول أن هذا الأصل مستحيل، لأنه لا يمكن وجود نص يحتوي على اسم علم من اللغة الهيروغليفية، وله جرس هيروغليفي، ويعود إلى القرن السابع الميلادي، وغير معروف لحد الآن. والسبب أن اللغة الهيروغليفية نسيت منذ زمن بعيد جداً. بيد أنه نصحني بمراجعة معجم أسماء الأشخاص في الإمبراطورية الجديدة: Dictionary of Personal names of the New. والبحث فيه إن كان هذا الاسم الذي يمثل عندي الهيروغليفية موجوداً فيه حقاً. لقد كان يُفترض ذلك، وعند البحث وجدته مسطوراً في هذا المعجم تماماً كما توقعته، ويا للمفاجأة..! إن مثل هذه القصص تثير سؤالاً قديماً عند كاتب هذه السطور: ترى لماذا لم يهتم المسلمون بتأسيس فرع للآثار، يسمى علم الآثار القرآني، يهدف إلى الكشف عن الحقائق التاريخية التي يصوبها أو يكشفها القرآن للمؤرخين. لماذا لا يصرف ببذخ على تنقيبات أثرية للبحث عن آثار عاد وثمود وبقية الأمم والشعوب التي ذكرها القرآن؟. إنني على ثقة كبيرة من أن توجيه القرآن للبحوث الأثرية والروايات التاريخية، سيقلب المناظير التقليدية لهذه العلوم رأساً على عقب، وسيكشف عن مفاجآت ما كانت تخطر لنا على بال. لولا أن القرآن، كما قال محمد الغزالي، قضية ناجحة في يد محام فاشل..!.