التوبة كما يقول الراغب الأصفهاني:((هي ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهي أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: - إما أن يقول المعتذر لم أفعل. - أو يقول فعلت لأجل كذا. - أو فعلت وأسأت وقد أقلعت. ولا رابع لذلك، وهذا الوجه الأخير هو التوبة. والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرّط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرط التوبة))(1). وهنالك نوع من الارتباط بين الصيام والتوبة في معظم الأديان، وعلى سبيل المثال نجد صيام اليوم العاشر من الشهر السابع هو الصوم الوحيد المذكور في التوراة، وكان ملفتاً للنظر أن يسمى ذلك اليوم بيوم الغفران، وهو يوم مقدس لدى اليهود يصومونه ويمضونه في الكنس، طالبين من الله الرحمة والمغفرة. ونجد في سفر يونان (يونس) عليه السلام، عندما طلب الله منه أن يخبر أهل نينوى بأن نهايتهم وشيكة بسبب ذنوبهم، قام أهل نينوى بالصيام والتضرع إلى الله، فقبل الله توبتهم، ورفع عنهم العذاب(سفر يونان3 : 3 - 9). والمتأمل في القرآن الكريم يجده يربط بين الصيام والتوبة ربطًا شرطيًا في بعض الذنوب، وليس لهذا إلا معنى واحد، وهو أن الصيام وسيلة لتزكية النفس وتطهيرها وإخلاص توبتها لله، ولهذا أمثلة في القرآن الكريم: المثال الأول: صيام شهرين متتابعين يصومها توبةً إلى الله مَن وقع منه القتل الخطأ، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا))[ النساء : 92]. المثال الثاني: صيام شهرين متتابعين يصومها توبة إلى الله مَن ظاهر من زوجته، قال تعالى:(( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ))[المجادلة :3 - 4]. المثال الثالث: صيام ثلاثة أيام يصومها من اصطاد وهو محرم تكفيرًا عن خطيئته، قال تعالى:(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ))[ المائدة : 95]. المثال الرابع: صيام ثلاثة أيام يصومها من حنث في يمينه، قال تعالى:((لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))[المائدة : 89 ]. ويلاحظ من الآيات الكريمة السابقة أن الصيام ورد فيها كأحد الخيارات المصاحبة للتوبة، وبتنزيل الآيات على أيامنا هذه يكون الصيام شرطاً إلزامياً في التوبة من قتل النفس عن طريق الخطأ، وفي التوبة من الظهار؛ لأننا لا نجد هذه الأيام عبيدًا لتحريرهم، والقرآن في موضوع تحرير العبيد أو عتق الرقاب يستخدم تعبير:((فَمَن لَّمْ يَجِدْ)) بينما في موضوع الصيام يستخدم تعبير:((فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ)) وكأنه بذلك يخبرنا عن يوم يأتي وتنتفي فيه العبودية، ولا يجد المسلم حينها شخصًا لتحريره، وبالتالي يتوجب عليه التوجه نحو الخيارات الأخرى المتاحة وهي الصيام أو إطعام المساكين أو كسوتهم. [email protected] (1) المفردات للراغب لأصفهاني، مادة : توب.