حين يأتي الصباح نلعن بعضنا ونسفه بعضنا بدعوى الدفاع عن الوطن , ذلك الوطن الذي صار محضيتنا ونزواتنا الفاجرة , تلك العلاقة الشائكة مع ما نسميه وطناً تجعلنا لا نقف عند حد من حدود ارتباطنا بهذا الكيان بل نوغل في غرس الخنجر الى المقبض في خاصرته , لا لشيء فقط لنرضي رغباتنا المريضة وعقدنا المتضخمة أننا قد صرنا كباراً , كباراً على كل شيء حتى على الأرض التي نسير عليها والسماء التي تظلنا , هذا الشعور الزائف يخفي وراءه حقيقة موجعة هي كم نحن أقزام وحمقى في مقام هذا الوطن إذ نبيع ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا من أجل لعنة ستلازمنا أبدا . هناك قطيعة روحية وسلوكية بيننا وبين الوطن ,الوطن كفكرة والوطن كشعور والوطن كحياة وسلوك ,إذ أصبنا بالجهل والأمية الوطنية , فلا ندري كيف نكون ولا كيف نعبر ولا كيف ننتمي ونحب ونغضب في هذه الأرض . كل شعب ولديه مفرداته ولغته في التعبير عن ارتباطه وانتمائه وحبه للأرض التي يعيشها والمكان الذي يتمثله , فإذا أصيب شعب بالاغتراب الوطني وبالاغتراب الفكري فقد خصوصيته , وأخذ يستجدي مفردات وأسلوب الآخرين وبشكل فج لتعبير عن علاقته وحبه لوطنه – إن كان محباً لوطنه أصلاً- , قبل أيام وأنا أسير في أحد شوارع العاصمة استفزتني عبارة مكتوبة على إحدى البوابات ليست من مفردات هذه الأرض ولا من خصوصيتها اللهجوية ( دام عزك يا وطن ..) هذه العبارة الوافدة عبرت عن شكل من أشكال مسخ الخصوصية والارتباط بيننا والمكان الذي ننسب إليه والذي نسميه وطنا , فلو حللنا هذه العبارة فكريا ومعرفيا لوجدنا أنها لا تنتمي إلى جغرافيتنا العاطفية والوطنية , ذات التضاريس المتنوعة والخصبة , المرتبطة بالمكان سلوكا وتاريخا والممتدة في عمق الزمن , عبارة كهذه تدل على البداوة و الترحال والارتباط الكمي والنفعي وليس النوعي ,عبارة كهذه تدل على الربط وليس على الارتباط بالأرض فالربط هو أمر لاحق للوجود بينما الارتباط هو وجود قبل الوجود , وما هذا إلا مثل على ما نخشاه في الوقت الذي كان يجدر بنا التأثير بمن حولنا , صرنا تربة خصبة للتأثر بمن حولنا وبشكل اندفاعي , والإشكالية ليست في العبارة , ولكنها مؤشر من مؤشرات الاغتراب الثقافي والوطني ,أن أبجديات تمثل الوطن والانتماء به وله , وفهم الارتباط بالوطن يتخلق منذ المرحلة الجنينية كالصفات الوراثية في تركيبنا الروحي والفكري نرضعه مع حليب أمهاتنا في نبر ملالاتهن ونحن في أحشائهن , في شكل اللغة التي نتحدث ها ونناغى بها في المهود , في مفردات والمترادفات التي تزرعها شمس المكان وعبق المحيط المادي والروحي ,فهناك متلازمات لا يمكن أن ينفك ذلك الوجود وتلك العلاقة والمتمثلة بين اللغة الفعل والإنسان الفاعل واللغة هي شكل من أشكال الارتباط والانتماء و الهوية والخصوصية ,لذا فاللغة تعبر عن شكل العلاقة بكل أبعادها , اللغة ليست مجرد مفردات تتدافع لتكون منظومة تواصل فقط بل تشكل نوع وشكل وخصوصية , ذلك التواصل والارتباط بكل ما حولنا وفينا , ويمكن أن نقيس مستوى تطور أي مجتمع على المستوى المادي والإنساني من خلال قياس مستوى لغته وتطورها كاداءة تواصل وككيان لتوليد الهوية , فكلما كانت اللغة ديناميكية متحركة حية متفاعلة كان المتحدثون بها أكثر نشاطا وأسرع في الانجاز , وهذا ينطبق على الارتباط بالمكان ومن فيه فمن خلال المؤسسة الأولى للتعلم وهي الأم وصولا إلى أعلى مستويات التعلم والمعرفة , تتم عملية ولدت الوطن في وجدان الأفراد , الأم والأب البيت ،الأسرة ، الشارع، المسجد ، المدرسة , المرافق العامة والخاصة الجامعات .... الخ , كلها محطات لتطوير لغة الارتباط بالوطن ولا نزاع في أن يكون الفرد متعلماً أو شبه متعلم فالوطنية ليست مادة علمية معرفية بقدر ما هي سلوك وارتباط ثقافي وجداني ينشأ في الفرد كمسلمة من المسلمات الحياتية والوجودية على ظهر البسيطة شأنها شأن جميع الكائنات التي تنزع إلى أوطانها وكم نحتاج ان نتعلم من الحيوانات انتماءها لأوطانها فكم تقطع من المسافات وتواجه من الصعاب والمخاطر لتعود إلى أوطانها تلك الغريزة التي لم تحتج إلى أحزاب أو سياسات أو قيادات أن تحفز عليها وتغرسها في وجود تلك الكائنات هي موجودة فينا قبل أن تفسدها السياسات والأحزاب ومشاريع الآخرين , هي ذلك التركيب البسيط في الذي يعيشه الفلاح والراعي والأطفال ولا يعرفون سره لكنهم يتمثلونه يشعرون به في الثنائية بينهم والأرض التي يسيرون بها الحنين الذي يملئهم حين يبتعدون عنها ذلك التراكم من العلاقات بالمكان والناس , ذلك السر الذي يشدهم الى بداياتهم الى آبائهم وأمهاتهم وكل شيء ... يرتبط بوجودهم ولا يفقده إلا من فقد ذاكرته وحذف كل تراكمه المعرفي والسلوكي وبرغم من ذلك سيجد انه قد يفقده لكن الوطن يحتضنه , فاحفظوه يحفظكم وتكونوا به أقوياء . رابط المقال على الفيس بوك