يتم الحديث منذ عقود عن الإصلاح باعتباره عملية عابرة يمكن تجاوزه أو القضاء عليه بهكذا إجراء روتيني والحقيقة أن الإصلاح عملية معقدة متغلغلة ومتشعبة. وأكثر ارتباطاً بالإرادة السياسية والإرادة السياسية في بلادنا تختلف عنها في بلدان الأرض قاطبة.. فهي منتجة للفساد ومحمية به. والإصلاح مفهوم عام ومطاطي يمكن استخدامه من قبل جميع الأطراف والتيارات بما فيهم أولئك الذين يدمرون كل شيء ويطلقون على التدمير إصلاحاً. ولكن يظل هنالك مفهوماً واحداً يمكن التعاطي معه وهو المرتبط بالناس وبنمط حياتهم اليومية، وهم المعنيون بأحداث هذا الفعل الواعي، والمعالجات وفقاً لهذه المفاهيم لا يمكن أن تتم إلا عن طريق رؤية استراتيجية لا يمكن أن يضعها طرفاً بذاته وإنما هو تعبير موضوعي عن رؤى واتجاهات الغالبية أن لم نقل الجميع. اليمن تعاني من فساد مالي وإداري وصل حد التدمير الشامل لثرواته ومقوماته البنائية المتعددة.. وربما أن القادة والمسئولين في الحكومة أكثر استهلاكاً لمثل هذه المفردات وأكثر استنزافاً للمال العام في ما يطلق عليه إصلاحات. الإصلاح ببساطة هو رؤية واقعية لاستنهاض الواقع وتطوير أدائه، وهو أيقاف نزيف أموال الشعب لصالح حفنة قليلة من العناصر الطفيلية وهذه السلوكيات نتاج طبيعي للفساد السياسي، وهو الأخطر والمدمر للثروة والدولة والحضارة، ومصطلح الهيكلة التي رافقت انطلاق الثورة الشبابية الشعبية السلمية هو اعتراف بالمشكلة ورغبة في إصلاحها، ولكي يكون ذلك ممكناً لابد وأن يكون معبراً عن رغبة الناس في التغيير وعن إصلاح جوانب الخلل. إعادة هيكلة وزارة الإدارة المحلية لاقى ارتياحاً واسعاً النطاق، وبالقدر ذاته تحرك عدد ممن يتوقعون أن الهيكلة ستضر بمصالحهم، وقد يخسر البعض مواقعهم في اتجاه مضاد لإسقاط هذا التوجه الحكومي، وربما لاقى قبولاً لدى بعض الدوائر التي لا تزال لديها علاقات بالعناصر الطفيلية المتمسكة بمصالحها ونفوذها قبل الثورة غير مدركين أن التغيير قد بات على مقربة منهم، وأن هنالك قد اصبحوا في إطار مرحلة تحكمها الشراكة بالآخر. ولكي تصبح الهيكلة حقيقة واقعة لابد من طرح المشكلة، ومناقشتها بصورة جماعية فالإجراءات التي أحدثت هذا الواقع كان يقصد بها معالجة بعض جوانب الفساد المالي والإداري، ولكن الفساد السياسي الذي تديره النخبة أو المركز المقدس حال دون ذلك.. لأن الفساد قد أصبح منظومة متكاملة.. متداخلة مترابطة فيما بينها وصولاً إلى المركز المقدس، وتحولت تلك المعالجات إلى فساد مركز ووباء اجتماعي واقتصادي يهدد البلاد بكل مكوناتها الجغرافية والسياسية والاجتماعية، والجميع تقريباً في الإدارة المحلية وأجهزتها المحلية المختلفة ناهضت هذه العملية وطالبت بإعادة إصلاح الاختلالات وفقاً لرؤية علمية واقعية وموضوعية سيما وقد أصبح هنالك هيكل إداري مخيف يلتهم جزءاً كبيراً من خيرات البلد، ومستحقات موظفي الدولة وهم الأكثر تضرراً من هذا الوضع الاستثنائي.. فقد تحول قلة قليلة من الناس إلى عبء على الموظف الصغير، وعلى الوظيفة، وعلى ميزانية الدولة، ولكن عندما أصبحت الهيكلة حقيقة واقعة ارتفعت الكثير من الأصوات المطالبة برفضها والتصدي لها، تعاطفاً مع القلة الطفيلية التي يعاني منها الجميع، وتهدد لقمة عيشهم، وهذا في تقديري ناتج عن عدم وجود شفافية وعدم وجود عمل مؤسسي، ونظرة حقيقية للأمور فالإدارة الجديدة للوزارة تعاطت مع الواقع من منظور قناعتها الشخصية بأن ماهو قائم فهو فساد ينبغي مناهضته والقضاء عليه.. دون أن يكون هنالك تشخيصاً موضوعياً للمشكلة، ومناقشتها بإشراك الكوادر الإدارية وأن يكون هناك توصيفاً للوظيفة القديمة وللوظيفة العامة واحتياجاتها حتى يكون الجميع مشاركاً في التشخيص والمعالجة وبالتالي سيكون غير ممكن أن تجد هذه العناصر الطفيلية من يستمع لها ويلغي قراراً سابقاً بالموضوع في أجهزة الدولة العليا.. فليس ممكناً أو مقبولاً أن يقوم اشخاص محدودون بوضع تصور بإعادة الهيكلة، وإذا لم يكن الجميع مشاركاً سيأتي من يتبنى إجراءات أخرى لتصور آخر وهكذا دواليك. في الأسبوع الماضي تناقشت مع مجموعة وكانت على حق حينما اعتبرت أن الثورة لم تأتِ بالتغيير.. فالماضي مازال يحكمنا.. هذه العملية ناقشتها مراراً في بعض موضوعاتي.. وربما أني ذهبت إلى أبعد من ذلك حينما قلت بأن الناس لا يمكن أن يسلموا بأمر أن هنالك ثورة أحدثت تغييراً حقيقياً إذا لم يلامس التغيير مصالح الناس، فالمسئول الذي مارس عليهم ظلماً وفساداً لازال موجوداً ويمارس الأفعال ذاتها، سيما في الوحدات الإدارية التي تعرض الناس فيها سيما المطالبين بالتغيير لإجراءات قمعية وإقصائية، ماتزال تدار بالأشخاص ذاتهم، وبالوسائل ذاتها.. فالمواطن العادي إذا لم يلمس أن هذا المسئول قد تغير حقيقة، وأن إدارته قد أصبحت في خبر كان ياما كان في قديم الزمان، فلا يمكن أن تقنعه بالتغيير الذي حدث.. فالثورة حدث تاريخي هام، وتغيير جذري للبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتنموية وهذا ما أثارته فعلاً المجموعة التي دخلت معها في النقاش.. فنائب الوزير الأستاذ عبدالرقيب فتح أثار الكثير من الموضوعات في وسائل الإعلام، وتعهد بمعالجتها، ومن هذه القضايا وجود “170” مدير مديرية لا يقرأون ولا يكتبون وهذه العملية متعارضة مع القانون.. والإدارة الجديدة ستعالج هذه القضية، ويصادف منذ يومين فقط كما أشار هؤلاء أن عين مدير مديرية أمانة العاصمة ممن لا يقرءون ولا يكتبون.. إذاً أين هو التغيير إذا كان الماضي بسيئاته وشخوصه مازالوا يديرون أجهزة الدولة، لأن رؤساء الوحدات الإدارية يعينون بطرق مختلفة ومن مطابخ متعددة.. فالنافذون لهم حصة في ذلك.. بما فيهم المشايخ الكبار، والقادة العسكريين.. فإذا لم يتم تغيير هذا الوضع فإن المشكلة ستظل قائمة.. وإذا لم يتغير رئيس الوحدة الإدارية الذي نصب نفسه سلطاناً على سكان هذه الوحدة، وأصبح جزء أو كل معاناتهم فإن الماضي مازال يحكمنا ويدير شئوننا، وما تزال المركزية قادرة على سحق منجزاتنا وتضحياتنا.. فمن الضروري أن يشعر الناس بالتغيير وبأن الظلم الذي عانوا منه طويلاً قد ذهب ولا يمكن أن يعاد، وأن العشوائية والارتجالية قد ولت إلى غير رجعة.. إذاً الفساد لا يمكن أن يقضى عليه إلا بإشراك المجتمع بصفة عامة، وعلى وجه الخصوص الفساد السياسي الذي أصبح يدير كل شيء في الواقع ويدمر كل ما هو إيجابي وموضوعي وسليم. ويتطلب الأمر انتخاب القيادات الإدارية وحكام الأقاليم والوحدات الإدارية الأدنى بطرق ديمقراطية مباشرة، وعن طريق التنافس المتكافئ.. بحيث يخضع المرشح لمجموعة من الشروط والإجراءات القانونية. فالمشكلة ستحل بالتأكيد بعقلية الجماعة وفكر الجماعة، وبالحوار والجدل الواعي والقبول بالآخر، وإلا فالمشكلة قائمة.. والموضوعية والشفافية والواقعية أساس لمعالجة أي قضية. والقضية الجنوبية التي تعتبر جوهر القضية اليمنية وروحها النابض لم تقتصر على المحافظات الجنوبية فقط وإنما لها امتدادات واسعة إلى مختلف مكونات البلد السياسية والإدارية والثقافية لأنها جزء أصيل من الجسد اليمني أو أصبحت هكذا فالأخوة من أبناء المحافظات الجنوبية بوزارة الإدارة المحلية تقدموا بمقترح يطالبون فيه بمساواتهم بالطرف الآخر أي الشمالية لا بتقاسم المواقع الإدارية في المرحلة الجديدة، مرحلة الثورة والتغيير. وإن كان الأمر قد استفز بعض الأخوة إلا أن الأمر في تقديري موضوعياً وطبيعياً لأن الوحدة قامت على خلفية دمج مكونين سياسيين ولا ينبغي أن يثير حفيظة الآخر.. فالثورة قامت لتصحيح الاختلالات التي وجدت، وإعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي وكان شعار القضية الجنوبية وما يزال هدف الثورة السلمية وروحها. فمن حق الأخوة الجنوبيين أن يتقدموا بشروطهم وتصوراتهم لحل القضية.. فهم شركاء في الوطن والثورة ولكن ينبغي أن تكون شروطهم موضوعية وواقعية، وأن تدرس العملية بشفافية بعيداً عن المغالاة والشطط.. سيما وأن مطالبهم هذه ليست حزبية، وإنما بصفتهم كوادر لهم بصماتهم في قيادة التغيير وبناء مختلف أجهزة الدولة ولديهم موروث إداري عريق في مجال اللامركزية.. فهم سبقونا في هذا الأمر ولا ينبغي سلبهم هذا الحق.. وعلاوة على ذلك هم لم يأخذوا ما يستحقونه فعلاً.. ورفض مطالبهم يعني عدم الاعتراف بقضيتهم التي فجرت الثورة، وسارعت في التغيير وبقيام الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. ومن حق الوزارة أن تقف بتجرد أمام هذه المطالب وتتعامل معها بواقعية وأن تتعامل مع الموضوع من منطلق حقوقهم التاريخية وفقاً للكفاءة والخبرة والأهلية، والقدرة على القيادة أو وفقاً للمبادرة الخليجية التي أفرزت واقعاً يدير البلد وفقاً للوفاق الوطني والشراكة مع مختلف المكونات السياسية والحزبية والثورية شرط أن تلزم الأحزاب بنسب يجب تخصيصها لأبناء المحافظات الجنوبية وكذا الفئات والمكونات الثورية وفقاً للمعايير المتفق عليها في إطار لجنة الحوار الوطني. وهناك ستزول الاحتقانات والجميع تقريباً لا يمكن أن يقفوا ضد هذه العملية. ولو كانت مشكلة الإدارة المحلية قد خضعت للتقييم الموضوعي والنقاش الواعي المسئول لما ظهرت هذه الاحتجاجات.. والحوار الوطني جاء على خلفية وجود القضية الجنوبية المحرك الأول والأساس للثورة، وأجندة الحوار المطروحة تقوم على أساس التمثيل وبالمناصفة مع الجنوبيين، وهو المعيار الذي ستقوم عليه الدولة الجديدة.. فالوحدة كما اسلفنا مراراً ليست شيئاً مقدساً وإنما هي مشروع وطني وتعميدها بالدم قد أدى إلى إجهاضها في مهدها، وإعادة بناء الدولة وفقاً لمعيار الكفاءة والشراكة سيؤدي حتماً إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية القوية التي نريد.. رابط المقال على الفيس بوك