فرضت متغيرات المجال السياسي في بعض الأقطار العربية على الجماعات السلفية اتخاذ خطوات جريئة على المستويين : الفقهي المجرد والعملي المنظم, استجابة للتحولات المرحلية المصاحبة للمتغيرات المحدثة بفعل حركة الاحتجاج الجماهيري في العام 2011م. يحسب للجماعات السلفية هذه الايجابية في الاستجابة للمتغيرات، والتعامل بمقتضاها، نظرياً وعملياً وذلك من خلال الانخراط في العمل السياسي المنظم والمؤطر في أحزاب سياسية كانت الجماعات السلفية تحرم هذه التنظيم السياسي، وترفض المشاركة فيه من منظور رؤيتها له كمحظور ديني، إن لم يكن كفراً مناقضاً للإسلام. ومن تونس إلى مصر فاليمن، انضمت إلى الخارطة الحزبية أحزاب جديدة معبرة عن غالبية معتبرة من الجماعات السلفية المتعددة، وكانت الإضافة ذات الأهمية الجوهرية في هذا التحول السياسي للسلفية هي الدلالات المحمولة على التحول من وضع سياسي إلى نقيضه من منظور الرؤية العامة للسلفية نفسها، فمن تحريم الحزبية والديمقراطية إلى القبول بهما بنفس المرجعية العقائدية، أي الدين. في تاريخها المشهود قبل العام 2011م كانت الجماعات السلفية تنأى بنفسها عن المجال السياسي وفق خطاب ديني يستند إلى الإسلام في حظر التحزب وتكفير التعدد وما يترتب عليهما من نظم ديمقراطية تقوم على مبدأ السيادة الشعبية فيما يخص التشريع حيث تتجسد هذه السيادة في آلية تفويض ممثليها بسلطة التشريع، وهو ما قد ينجم عنه خروج ممثلي الشعب عن الشريعة عند ممارستهم لهذا التفويض بإطلاق غير مقيد ؛ بالإضافة إلى ما كانت تراه السلفية في الحزبية من فتنة ظاهرة في أحزاب غير دينية أو ضد الدين أو فتنة باطنة فيما قد تحمله التعددية أو تمارسه من فرقة أو تمزيق. في خروج بعض جماعات السلفية من هذا الأسر ، برز في خطابها المنتج لتبرير التحول، ما يؤكد أن الشريعة هي المرجعية الحاكمة للعمل السياسي، وان التحولات التي جاءت بها الاحتجاجات الشعبية قد صنعت فرصة سانحة ومتاحة لإقامة حكم الإسلام، وبناء دولته، بل بالغ بعض مراجع السلفية بالقول إنها الفرصة السانحة لاستعادة الخلافة الإسلامية، غير أن هذا التحول أكد حقيقة الفصل القائم بين الإسلام والجماعات المعبرة عنه سياسياً، لأن الإسلام ثابت بمرجعيته بينما تغير فقه السلفيات واجتهادها. هذا الفصل يعززه الواقع السياسي من خلال معطيات التجربة التاريخية والوضع الراهن، بالحقائق الدالة على أن الثبات التام للمرجعية الدينية في الإسلام قوبل بالتحولات الجذرية في خطاب وفعل الجماعات المعبرة عنه سياسياً في العصر الحديث، خصوصاً وأنها بعد زهاء القرن من ادعائها وجود النظام السياسي في الإسلام وبه ومنه ، لم تقدم للأمة حين سنحت لها الفرصة هذا النظام أو نموذج نظري له، بل قبلت بما جاءنا من الحداثة الغربية دون تأصيله بفقه الإسلام تأصيلا جزئياً أو كلياً، فالحزبية منتج أصيل للحداثة الغربية ، كما هي بقية مفردات المنظومة الديمقراطية المعتمدة للنظام السياسي وسلطة الحكم في كل من تونس ومصر. ورغم هذا الفصل وتجلياته في تاريخ وواقع السلفيات المعاصرة، إلا أن أحزابها تتمسك بشدة في دعوى تمثيلها الإسلام وتعبيرها عن صورته السياسية في السلطة والمجتمع، فمثلاً انحصر حضور الإسلام في دستور مصر الجديد بعبارات يستحيل تنزيلها على بنية ووظائف السلطة السياسية إلا إن كانت جماعة الإخوان أو أي جماعة سلفية أخرى، هي القابضة على هذه السلطة وهي المتصرف الوحيد بهيئاتها وإدارة مهامها، فالعبارات الدستورية التي قيدت ممارسة الحريات الشخصية والسياسية والثقافية يشرط عدم خروجها عن الإسلام مؤطراً بمذاهب أهل السنة والجماعة، لم تحدد هيئة معنية برقابة الالتزام والتعامل مع المخالفات خاصة وأن فقه الأحكام يتباين بين المذاهب ليصل في حالات كثيرة إلى التناقض كما في عقوبة القتل العمد والدية للأنثى أو غير المسلم. الازدواجية السائدة في الخطاب السياسي للسلفيات الدينية المنخرطة مؤخراً في مجال العمل المنظم حزبياً، صنعت أزمة متفاقمة في الواقع السياسي، لا من حيث هي تعددية متصارعة في الواقع تحت وحدة وواحدية المرجعية ، ولكن بهذا ومعه ، ما يثيره شرطها أسلمه النظام الديمقراطي ، من تسلط محتمل تستبد به أحزابها ضد الأحزاب الأخرى التي ترفض الخلط بين قدسية الدين، وتحولات السياسة، ولا مناص من اعتراف هذه الجماعات بحقيقة كونها تعبيراً سياسياً عن نفسها بما بلغه اجتهادها بفقه الدين وعلوم السياسة، ذلك أن استمرار تمسكها بتمثيل الإسلام يقودها إلى مزيد من المتاجرة الخاسرة بقدسيته في مجال سياسي متقلب ومحكوم بالتغير والتبدل. ستكون خسارة السلفية كاملة، حين يتكشف الواقع تحت حكمها عن استخدامها للإسلام لتبرير تسلطها ومفاسد طغيانه في البلاد وعلى العباد، عندها ستخرج السلفية من السياسة والدين. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك