يبدو أن العلماء الأجلاء في بلاد الإسلام وعلى مر العصور مكتوب عليهم أن يدخلوا في خلاف مع الحكّام والساسة فيقعون في محن كبيرة، ويورد لنا التاريخ الإسلامي علماء كباراً وقعوا في محن وسُجنوا وعُذّبوا ونُفوا من الأرض وتحمّلوا كل ذلك من أجل كلمة حق قالوها يعتقدون أنها تصب في صميم واجبهم الديني والأخلاقي، وأكبر مثال على ذلك الإمام أحمد ابن حمبل الذي سُجن وعُذّب في عهد المأمون الخليفة العباسي الشهير بسبب محنة خلق القرآن المعروفة. ومن واقع الحياة المعاصرة نجد أن هذا الخلاف بين العلماء والسياسيين هو حصيلة مؤكّدة لشيء مؤكد وهو أن السياسة ليست ثابتة، وأن من أهم أسسها التغيير المستمر، وأن الدين قيمة ثابتة، فكيف ينسجم ثابت مع متغيّر..؟! فمهما حاولنا القيام بعمليات هنا وهناك من أجل بقائهما منسجمين ومتعاونين ومكمّلين لبعضهما؛ إلا أننا سنجد أنفسنا فجأة في تصادم كبير، وبعد هذا يجد العالم نفسه بين خيارين: إما أن يوافق الساسة في آرائهم وينسجم مع متغيراتهم السياسية على حساب أفكاره وقيمه التي دافع عنها سنوات من العمر وكتب وألّف كتباً في ذلك مقابل إرضاء الحكّام والسياسة. وإما أن يقف مع ما يرى ويعتقد على حساب عدائه للسياسيين الذي يجعله يدفع ثمن ذلك الموقف، وقد يكون الثمن حياته كما حصل للعالم «جاليليو» بأوروبا في العصور الوسطى عندما خالف الكنيسة وقال إن الأرض كروية عكس ما تعتقد الكنيسة فتم إعدامه حرقاً ولم يتراجع..!!. وكما حصل للفيلسوف اليوناني الشهير «أرسطو» الذي سجنه الحكّام آنذاك لأنه دعا إلى ديمقراطية حقيقية في أثينا؛ فسُجن وحاول تلاميذه نصحه بالرجوع عن أفكاره للخروج من السجن أو مساعدته في الهروب ورفض كل ذلك ودفع ثمن ذلك حياته. ويبدو أن الشيخ الفاضل العالم الجليل القرضاوي هو العالم الذي اختاره القدر ليكون صاحب محنة هذا العصر، وأننا نعتقد أنه مهما كان خلافنا مع بعض ما يطرحه الشيخ الجليل؛ إلا أنه لا يستحق كل تلك الحملة الشنعاء ضدّه إلى حد الضغط الإقليمي والدولي على دولة قطر لإخراجه منها والضغط بكل الوسائل لمنعه من الخطابة. والتساؤل هنا: أين هي الحرية التي يتغنّى بها البعض، أين هي منظمة حقوق الإنسان، ولماذا عندما يشتم بعض العلماء والكتّاب الإسلام ونبيّه وعندما يغضب المسلمون لذلك تقوم الدنيا كلها مدافعة عن حقوق الفكر والرأي، فعندما شتم سلمان رشدي القرآن وغضب المسلمون؛ قام الغرب كلّه مدافعاً عن حرية الرأي. أين هذا كله من محنة الشيخ القرضاوي، هذا العالم الذي أصبح عالم عصره ومجدّده؛ أضاف إلى المكتبة الإسلامية عشرات الكتب القيّمة، هذا العالم أسلم على يديه المئات وله من الطلاب الآلاف في مشارق الأرض ومغاربها..؟!. ماذا يريد الحكام منه وهو في هذا السن، ألا توجد في ديننا الإسلامي حقوق إنسانية لمثل هذه الحالة، ولماذا صوت الساسة يعلو فوق كل صوت حتى صوت الدين، لماذا لا نحترم من نختلف معه في الرأي ونعاقبه على هذا الاختلاف وخاصة عالماً أعطى حياته كلّها خدمة للإسلام والمسلمين..؟!. لك الله يا شيخنا الجليل، هي محنة قدّرها الله لك، فكُن صابراً واثقاً شامخاً شموخ الجبال، لا خوف عليك ولا هم يحزنون، والخزي والعار سيكون لمن يحاولون إغلاق فمك وتجميد رأيك، وسيقول التاريخ كلمته الفاصلة، وسيلعن التاريخ مستقبلاً من آذاك وحاول إغلاق فمك، أما أنت فأنت خالد في قلوب طلابك وكل قرائك وستُكتب في سجل الخالدين.