البناء والهدم، التطور والانحطاط، الارتفاع والانخفاض، التفوق والفشل، النجاح والرسوب، الصدق والكذب، الأمانة والخيانة، الإخلاص في العمل والمراءاة، و”مخرّب واحد غلب ألف عمّار”... كلمات متضادة كثيرة أفرزها واقع اليمن المعاصر ولا يتسع المقام لذكرها؛ فإذا وجدت أناساً يريدون بناء اليمن وتطويره ورفعته، والتفوق والنجاح في نهضته، مع الصدق والأمانة والإخلاص في العمل، تجد أبالسة الإنس يقفون أمامهم بالمرصاد ويسعون إلى هدم اليمن وانحطاطه وخفضه وفشله ورسوبه، مع الكذب والخيانة والمراءاة والنفاق، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا الواقع المأساوي يقودنا اليوم إلى أن نلم السواعد جميعاً لنبني مصنعاً نهضوياً معنوياً لا مادياً؛ ننظر إليه بعين المسؤولية ونفكر فيه ونخطط لنهضته وتطوره؛ كي ينتج واقعاً معافى صحيحاً من العلل؛ بشرط أن تكون مواد بنائه مكونة من أمرين رئيسيين في غاية الأهمية وهما: التربية والتعليم. أما التربية فيقول التربويون: إن التربية الإنسانية ترجمة حية لقوله تعالى: (إني جاعلٌ في الأرض خليفة)، ومعنى الاستخلاف لا يتحقق بالتعامل المجرد والجزئي مع الإنسان بل يتحقق بالتعامل مع الإنسان والكون والحياة، واستثمار التسخير والكرم الرباني المودع فيه وعليه، بما يؤدي إلى حسن العمل وفهمه الذي يعد معياراً لنجاح الإنسان في فهمه لرسالة الاستخلاف وكيفية التعامل معها، وعن طريق التربية يتربى الفرد الصالح وتنمو المفاهيم الإنسانية الخيرة بين بني البشر وفق ثقافة الأمة وحضارتها وتراثها. وأما العلم فهو أساس النهضة وسبيل المجد والرفعة، بِه تُبْنى الأُمم وتقوم الشعوب والدول.. وقد يقول قائل: لماذا يعد العلم مهماً إلى هذه الدرجة؟ أقول: لأن علم الإنسان وثقافته ينقلانه إلى أن ينظر إلى الحياة بعين الحقيقة، وبالعلم الحقيقي يتفانى الإنسان في أداء واجبه ويتفوق في الحياة ويحترم ما يفعله الآخرون وينبذ قيم التقاعس والتواكل والجمود والتعصب، الأمر الذي يجعل الوطن ينهض ويتطور ويلتحق بركب الدول المتقدمة، وهذا يدعونا إلى أن نسأل أنفسنا أسئلة عدة: لماذا نجحت تجارب شعوب مثل اليابانيين والألمان ونحن نفشل باستمرار؟ لماذا تقدموا ونحن نرجع إلى الوراء؟ والإجابة على هذا لابد أن نقرأ تجارب تلكما الدولتين ثم نستفيد من كيفية اهتمام شعوبها بالعلم وتنظيمهم للوقت واستغلاله حق الاستغلال، وكيف احترموا الإنسان وما حوله، رغم الظروف القاسية التي مروا بها، ولذلك لم تقهرهم الظروف وتتركهم كالجماد، فانظروا معي إلى تجربة اليابان التي ألقيت عليها قنبلة ذرية، والآن بعد ستين عاماً تتربع اليابان على عرش قائمة الدول التي توفر الرفاهية لسكانها، أما التجربة الثانية فهم الألمان؛ هذا الشعب الذي خسر الحربين العالميتين الأولى والثانية وتسبّب في مقتل حوالي 25 مليون قتيل خلال الحرب العالمية الأولى وحوالي 75 مليوناً خلال الحرب الثانية كما يقول التاريخ، هذا الشعب الذي احتل من قبل أقوى أربع احتلالات في العالم وقُسّم إلى شطرين ودُمر عن بكرة أبيه، اليوم تعالوا نرى الألمان بعد ستين عاماً، أصبحوا الامبراطوية الاقتصادية الأولى في أوروبا، الأمر الذي دعا بعض الشعوب إلى القول: إن الألماني مثل البنزين، يشتعل من القدحة الأولى، لا يهدأ ولا ينام، لا يعرف إلا عقلية البناء والتطور، فلا يوجد شعب في العالم يحترم الوقت مثل الألمان، يحترم العلم والنظام والترتيب وثقافة النقاش الهادئ، ولا يوجد شعب في العالم يحترم النظافة والبيئة مثل الألمان كما يقول بعض المحللين، ولاشك أنهم اهتموا كذلك بالمتفوقين، الأمر الذي يدعونا إلى إيلاء اهتمام كبير للمتفوقين؛ لأنهم الثروة القومية الحقيقية لأي أمة والعمل على استثمار العقول البشرية والطاقات المبدعة وإحاطتها بالرعاية والعناية وتوفير المناخ الملائم وكل الإمكانات لتزهر وتثمر في أحضان الوطن لنقطف ثمار جهود وعطاءات أبنائنا وتوظيفها في مصلحة بلدنا، ولنتذكر أن التعليم والتنمية والاستثمار في العنصر البشري هما عملة كل عصر وزمان. فإذا اهتممنا بالتربية والتعليم ولقي المتفوقون اهتماماُ عظيماً في المجتمع عندها ستهون كل المشاكل التي تنغص الوطن؛ حتى الديمقراطية التي يتغنى بها البعض في البلدان العربية ليس لها فائدة دون تربية وثقافة وتعليم؛ لأنه لا يعقل أن تجرى انتخابات ديمقراطية في بلد عربي نصف سكانه أميون، وحتى الإعلام يرتبط بالتربية والتعليم والثقافة التي تنشد التغيير؛ لأن التغيير المنشود ليس تغيير أسماء أو استبدال وجوه أو بث قنوات فضائية وإذاعات محلية وإصدار صحف في الشارع اليمني وبعضها تبث الكراهية والتفرقة والعداء والهدم والانحطاط والكذب، بل تغيير أفكار تنشد البناء في المقام الأول؛ لأن الحياة النهضوية بدأت بالكلمة الصادقة، والتغيير يبدأ بالفكرة. أخيراً نحن بحاجة إلى بناء مصنع يمني نهضوي قوامه التربية والتعليم بدرجة رئيسة، والثقافة واحترام الوقت والاهتمام بالمتفوقين بدرجة ثانوية، حينها نستطيع بكل تأكيد القول: إننا قطعنا شوطاً لا بأس فيه نحو النهضة والتغيير والتنمية الحقيقية التي يستحقها وطننا الغالي، وهذه مسؤولية الجميع دون استثناء. [email protected]