القيم الإنسانية، بكافةِ أوجهها، هي اليوم، مثلما كانت دائماً، فريسة لسكاكين الإرهاب. التطرف الديني، الذي ينمو على تربةِ خُصِبت بالجهل والأمية، هو “الغريم” الأول، هو الذي ينتج حالات إرهابية تهدد التعايش الاجتماعي ووحدة النسيج المجتمعي. لا شيء أفضل للقاتل من أن يجد مبرراً ذا صبغةِ دينية لجريمته؛ وها هو ذا التاريخ أمامنا يسرد هذه التجربة، مجرمون امتهنوا القتل لم يجدوا أمام سائليهم عن أسباب جرائمهم إجابةً قد تساعدهم على إمتصاص شيء من الغضب العام كإجابة تسوغ أفعالهم بمبررات دينية. القتل هو القتل، فمهما تعددت المبررات، وتعددت أساليبه، يظل “إزهاق روح” أشنع ما قد تقترفه يدا المجرم.حين استل إرهابيو القاعدة سكاكينهم وشرعوا في جريمة الذبح الجماعي ل14 جندياً في حوطة حضرموت، آنذاك وقد بلغت طريقة الإجرام الذروة، كانوا يصرخون “الله أكبر”، “الله أكبر ولله الحمد”، سيبدو الأمر للعالم، الذي سيرى مقطع الفيديو، كما لو أنه في صميم الدين الإسلامي، يشرعن هذا الإرهاب الفكرة التي باتت تسود في الغرب تجاه أبناء الدول الإسلامية وتجاه الإسلام بحد ذاته. الغربي لن يجتهد في الأمر، ويبحث في عمق المسألة، سيكتفي بما سيقوله المحللون وسيبني على هذا رؤيته لأبناء الدول الإسلامية. لن يتساءل العالم عن خلفيات هذا النمط الأبشع من الجرائم، بل ستتشكل لديه الصورة المغلوطة تجاه المسلمين عامةَ. تشويه الإسلام، قبل أن يمارسه لوبي إعلامي دولي، يبني قاعدته إرهابيون يحسبون على الدين الإسلامي، بأسلوب يُنفر الآخرَ ولا يتيح له أن يتساءل عن حقيقة هؤلاء الإرهابيين. المعضلة برمتها تقودنا إلى استنباط أن الإرهابيين لهم فعلاً ما يتكئون عليه عقدياً؛ فبالإضافة إلى عناوين إسلامية عريضة ك«الله أكبر» التي يهتفون بها لحظة القتل، ثمةَ مرجعيات تاريخية يستندون إليها.. فجنون لحظات القتلِ المنطلقة من أساسِ عقدي، سيما إذا كان دينياً، لا يمكن لأحدِ أن يكبح فيما بعد الجموح المتزايد باتجاهِ مزيدِ من القتل. لحز الرؤوس وجود في التاريخ الإسلامي العام، كحالات شاذة، وهذه الحالات الشاذة هي ما يركن الإرهابيون إليها ويعدوها بمثابةِ المُحَلِل لما يقترفونهُ؛ فرأس الحُسين ابن علي جال لأيام في البوادي لكي يصل إلى أمام من أمر بقتله، ورأس ابن الزبير أيضاً، ورأس ابن نصر الخزاعي، الذي حُزّ لمجرد أن ابن نصر قال أن القرآن مُنزل من عند الله وليس مخلوقاً، فأمر الخليفة العباسي أبو جعفر الواثق بالله بقتله لأنه يتبنى وجهة نظر تخالف رأي الخليفة الذي رأى أن القرآن مخلوق من مخلوقات الله. وثمة حوادث أخرى، لا تقل قبحاً عن حز الرؤوس إن لم تكن أقبح، فقد نبش العباسيون قبر معاوية ابن ابي سفيان وقبر ابنه يزيد وقبور أخرين ممن ناصروهم إبان خلافتيهما. على هذه المرجعيات التاريخية يستند الإرهابيون، هذه الحوادث التاريخية الشاذة على النهج الذي شرعه محمد (صلى الله عليه وسلم)، حين قال “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. هنالك الكثير من النصوص التي توضح أن الإسلام اهتم بالخلق والفضيلة باعتبار الأخلاق الحميدة حجر الأساس في الإسلام، لا يتسع المجال لسرد هذه النصوص، لكن التطرف الإسلامي يحاول جاهداً نسفها ليُحِلَ عنها مراجع تاريخية شاذةَ كل الشذوذ عن الأصل الديني، هذه المراجع التاريخية الدامية ستكون بمثابة أركان الدين لدى الإرهابيين. وحتماً سيلقون من يصبغ على أعمالهم لون “الفتوى”؛ فرجال الدين من هواة العنف دائماً ما يتوفرون، وفتاواهم جاهزة. هذا يُحيلنا إلى بداية الأمر؛ فالتطرف الديني يقدس التاريخ ويُنحي الأصل جانباً ويمضي على متن آلةِ القتل إلى نهايته المُحتمة بحكم صيرورة التاريخ. *** مثلما يهوى سدنة التطرف الديني إيجاد مبررات لإرهاب القاعدة، يجهد الإرهاب في هدرِ القيمة الإنسانية، فيحاول تثبيتها على مذبحه لتنهال سكينه على رقبتها؛ فأساس الإنسانية ورأسها - التعايش - لا يسمح لفكرته بالشيوع ولا للاتساع؛ لِذا فحزهُ باستعمال أدوات تقليدية وحديثة غاية الإرهاب. ما يصيب الإرهاب مجتمعاً إلا ويبدأ في الاجتهاد بنشر الكراهية و اللا قبول بالآخر والعنف، هذه الأساليب ستساعده على تحقيق غايته بقطف التعايش من جسد المجتمع المشبع بالقيم الإنسانية من التعايش إلى التكافل. كل شيء جميل في الوجودِ عرضة لسكاكين التطرف، وهذا الخطر المحدق بالجميع يستدعي مواجهته بتكاتف شامل يقصيه من بؤره التي تترسخ في عمق المجتمع بتقادم الزمن. إن التطرف يعمل من أجل أن يرى المجتمعات وقد تمزقت وتحولت إلى كُتل قائمة على أساس عصبوي مناطقي أو طائفي أو سلالي أو ما شابه، وهذا ما نراهُ جلياً في ممارسات “داعش” في العراق حيث تتغول في هتك حُرم وسفك دماء أبناء الطائفة “الإيزيدية” وتسعى من هذا الإجرام إلى أن ترى من سينجو من مذابحها قنابل انتقامية موقوته، وهذا أيضاً كان مسعى ل«القاعدة» في جريمتها الأخيرة بوادي حضرموت حين ارتكبت جريمتها على الهوية وبناءً على دعاوى مناطقية وطائفية. لنتحسس رؤوسنا، ولنغتنم الفرصة؛ فقد يحل وقت لن نكون بهِ قادرين على عملِ شيء. لنحافظ على هويتنا اليمنية الجامعة ولنقف ضد الشعارات الضيقة، هي الهوية الجامعة من بإمكانهِا إن تشبثنا بها أن تقينا من لظى التشرذم والتفكك والانهيار أمام المشاريع الظلامية التي تحمل شعارات العنف الطائفي والتطرف الديني أياً كانت الجهة التي ينطلق منها زحفها. [email protected]