المتابع للملف الأمريكي يستغرب التناقض الكبير بين الليبرالية السياسية الداخلية وعنفوان منطق القوة والغلبة على المستوى الخارجي، الأمر الذي يجعلنا نعتقد بأن الرأسمالية الأمريكية في طورها الحالي جذّرت ورسّخت اللعبة الديمقراطية من جهة، كما أنها - ويا للمفارقة - رسّخت الوحشية التاريخية أيضاً. لقد ترسخت الليبرالية السياسية من خلال اللعبة الانتخابية والتعددية السياسية والشفافية وترشيد الحياة الاقتصادية، بإقرار حقوق البشر في الداخل الأمريكي في أن يعيشوا حياة يتوفّر فيها الحد الأدنى من الكرامة والآدمية، حيث يجد الجميع الفرصة للتعليم والعلاج وإعادة إنتاج الذات بالمعاني المادية والروحية، كما تتمتع الولايات المتحدة بحقيبة قوانين إنسانية متقدمة بالرغم من الخدوش التي نالت تلك القوانين إثر تشريعات ما بعد سبتمبر، تلك التشريعات التي أعطت الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة تذكرنا بمكارثية الستينيات. وفي مقابل هذه المكاسب الواضحة نجد النزعة العسكرية والسياسية الحادة تجاه العالم الخارجي، ضمن منظومة تُجيز تدوير برنامج حرب النجوم بشكله المتجدد، وسباق التسلح الاستراتيجي، وتُحاصر روسيا بالعديد من الخطوات الاستفزازية بحسب ما يقوله الروس أنفسهم. وعلى خط متصل تتواصل هذه النزعة الحربية في الحروب المباشرة التي تشنها الولايات المتحدة في أكثر من مكان في العالم، بالترافق مع حروب غير مباشرة وحصارات وتهديدات لم توفّر أحداً، وإن بدت مؤخراً في انحسار معنوي وخطابي بالترافق مع الإخفاقات الظاهرة في العراق وأفغانستان. جملة التعارضات المذكورة تشير إلى تناقص حاد بل وسافر، وليس للعقل السياسي العالمي أن يستوعب شعارات الديمقراطية والشفافية التي تلهج بها أمريكا ليل نهار وهو يشاهد المآسي والويلات التي تقف خلفها الإدارة اليمينية الحالية، وخاصة التبني المطلق والإجازة التامة لسلوكيات الوحشية "الإسرائيلية" في الأرض المحتلة. تلك السلوكيات التي تعتبرها الإدارة الأمريكية "دفاعاً عن النفس" (!!) وتقيس موقفها تجاه العالم العربي برمته من خلال مؤسسة التوسع والمصادرة في الأراضي المحتلة، معتبرة أمن "اسرائيل" من أمن الولايات المتحدة. لا تستطيع الإدارة الأمريكية إقناع أحد بتناغم سياساتها ومواقفها، بدليل تلك الأصوات التي تتعالى في الداخل الأمريكي، وفي البلدان الحليفة تقليدياً للولايات المتحدة، وهذه الأصوات بجملتها تدعو الإدارة الأمريكية إلى حد معلوم من المصداقية، والتقارب بين أقوالها والأفعال، بين ليبراليتها الداخلية وسلوكها الخارجي[email protected]